الباحث القرآني

ولَمّا دَلَّ سُبْحانَهُ عَلى عِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ بِما فَعَلَ بِبَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ يَقُولُونَ (p-٤١٦)إنَّهم أشْجَعُ النّاسِ وأشَدُّهم شَكِيمَةً بِما لَهم مِنَ الأصالَةِ والِاصْطِفاءِ عَلى العالَمِينَ، مَعَ التَّأْيِيدِ بِالكِتابِ والحِكْمَةِ، وخَتَمَ بِأنَّ مَن شاقَّ رَسُولَهُ فَقَدْ شاقَّهُ، ومَن شاقَّهُ فَقَدْ شَدَّدَ عِقابَهُ، أتْبَعَهُ بَيانَ ما عاقَبَهم بِهِ مِن قَطْعِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بِأمْرِ النَّبِيِّ ﷺ لِنَخْلِهِمُ الَّذِي هو أعَزُّ عَلَيْهِمْ مِن أبْكارِهِمْ وهم يَنْظُرُونَ إلَيْهِ لا يُغْنُونَ شَيْئًا ولا مَنَعَةَ لَدَيْهِمْ فَقالَ: ﴿ما﴾ وهي شَرْطِيَّةٌ وأتْبَعَها بِشَرْطِها النّاصِبِ لَها فَقالَ: ﴿قَطَعْتُمْ﴾ أيْ كُلُّ ما قَطَعْتُمُوهُ، وبَيَّنَ ما [فِي ”ما“] مِنَ الإبْهامِ بِقَوْلِهِ مُعَبِّرًا عَنِ النَّخْلِ، بِما يُفِيدُ نَوْعَهُ وأنَّهُ هانَ عَلَيْهِمُ القَطْعُ ولانَ: ﴿مِن لِينَةٍ﴾ وهي ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، قالَ ابْنُ إسْحاقَ: هو ما خالَفَ العَجْوَةَ مِنَ النَّخْلِ، [و]قالَ ابْنُ هِشامٍ: اللِّينَةُ مِنَ الألْوانِ، وهي ما لَمْ يَكُنْ بَرْنِيَّةً ولا عَجْوَةً مِنَ النَّخْلِ فِيما حَدَّثَنِي أبُو عُبَيْدَةَ - انْتَهى. وقالَ صاحِبُ القامُوسِ اللَّوْنُ: الدَّقْلُ مِنَ النَّخْلِ، وهي جَماعَةٌ واحِدَتُها لَوْنَةٌ ولِينَةٌ، قالَ المَهْدَوِيُّ: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ومُجاهِدٍ [وغَيْرِهِما] أنَّها النَّخْلُ كُلُّهُ، وقالَ البَغْوِيُّ: ورِوايَةُ زاذانَ عَنِ (p-٤١٧)ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ [يَقْطَعُ] نَخْلَهم إلّا العَجْوَةَ». وأهْلُ المَدِينَةِ يُسَمُّونَ ما خَلا العَجْوَةَ مِنَ التَّمْرِ الألْوانَ واحِدُها لَوْنٌ ولِينَةٌ، وقالَ عَطِيَّةُ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ: اللِّينَةُ: النَّخْلَةُ، اسْمانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وجَمْعُها لِينٌ ولِيانٌ، وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: اللِّينَةُ ما تَمْرُها لَوْنٌ وهو نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يَشِفُّ عَنْ نَواةٍ فَيُرى مِن خارِجٍ، قالَ البَغْوِيُّ: يَغِيبُ فِيها الضِّرْسُ، وكانَ مِن أجْوَدِ تَمْرِهِمْ وأعْجَبِها إلَيْهِمْ، وكانَتِ [النَّخْلَةُ] الواحِدَةُ ثَمَنُها ثَمَنُ وصِيفٍ أحَبَّ إلَيْهِمْ مِن وصِيفٍ، فَلَمّا رَأوْهم يَقْطَعُونَها شَقَّ عَلَيْهِمْ وقالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: إنَّكم تَكْرَهُونَ الفَسادَ وأنْتُمْ تُفْسِدُونَ، دَعُوا هَذِهِ النَّخْلَةَ، فَإنَّما هي لِمَن غَلَبَ عَلَيْها، وقالَ الرّازِيُّ في اللَّوامِعِ: واخْتِلافُ الألْوانِ فِيها ظاهِرٌ لِأنَّها أوَّلَ حالِها [بَيْضاءُ] كَصَدَفٍ مُلِئَ دُرًّا مُنَضَّدًا، ثُمَّ غَبْراءُ ثُمَّ خَضْراءُ كَأنَّها قِطَعُ زَبَرْجَدٍ خُلِقَ فِيها الماءُ [ثُمَّ] حَمْراءُ كَأنَّها ياقُوتٌ رُصَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ثُمَّ صَفْراءُ كَأنَّها شَذْوُ عِقْيانٍ، ولِذَلِكَ إذا بَلَغَ الإرْطابَ نِصْفُها [سُمِّيَتْ] مُجَزَّعَةً لِاخْتِلافِ ألْوانِها كَأنَّها الجَزْعُ الظَّفارِيُّ. ولَمّا كانَ ما فُسِّرَ بِمُؤَنَّثٍ هو اللِّينَةُ، أعادَ الضَّمِيرَ مُؤَنَّثًا فَقالَ: (p-٤١٨)﴿أوْ تَرَكْتُمُوها﴾ ولَمّا كانَ التَّرْكُ يَصْدُقُ بِبَقائِها مَغْرُوسَةً أوْ مَقْطُوعَةً قالَ: ﴿قائِمَةً﴾ ولَمّا كانَ المُرادُ نَخِيلًا كَثِيرَةً لِإرادَةِ الجِنْسِ قالَ: ﴿عَلى أُصُولِها﴾ بِجَمْعِ الكَثْرَةِ ﴿فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ فَقَطْعُها بِتَمْكِينِ المَلِكِ الأعْظَمِ ورِضاهُ، قالَ القُشَيْرِيُّ: وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى [أنَّ] الشَّرِيعَةَ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وإذا جاءَ الأمْرُ الشَّرْعِيُّ بَطَلَ طَلَبُ التَّعْلِيلِ وسَكَتَتِ الألْسِنَةُ عَنِ التَّقاضِي بِـ ”لِمَ“ وحُضُورُ الِاعْتِراضِ والِاسْتِقْباحُ بِالبالِ خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ العِرْفانِ. ولَمّا فَطَمَ عَنْ طَلَبِ العِلَلِ خِطابًا لِلْكُمَّلِ، طَيَّبَ قُلُوبَ مَن دُونَهم بِعِلَّةٍ مَعْطُوفَةٍ عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ ذَلِكَ بِفَسادٍ ولَكِنَّهُ صَلاحٌ أُذِنَ لَكم فِيهِ لِيَشْفِيَ بِهِ صُدُورَ المُؤْمِنِينَ ويُذْهِبَ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، فَقالَ واضِعًا مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ ظاهِرًا يَدُلُّ عَلى ما أوْجَبَ خِزْيَهُمْ: ﴿ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ الَّذِينَ هم أُصَلاءُ في المُرُوقِ مِن دائِرَةِ الحَقِّ بِأنْ يُذِلَّهم ويَفْضَحَهم بِبَيانِ كَذِبِهِمْ في دَعْواهُمُ العِزَّ والشَّجاعَةَ والتَّأْيِيدَ مِنَ اللَّهِ لِأنَّهم عَلى الدِّينِ الحَقِّ وأنَّهُ لا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ نَسْخٌ، ورَوى أبُو يَعْلى عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «رَخَّصَ لَهم في قَطْعِ النَّخْلِ ثُمَّ شَدَّدَ [عَلَيْهِمْ] فَأتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! عَلَيْنا إثْمٌ فِيما قَطَعْنا أوْ عَلَيْنا فِيما تَرَكْنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ» - انْتَهى وكانَ ناسٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ مالُوا إلى (p-٤١٩)الكَفِّ عَنِ القَطْعِ لِما سَمَّوْهُ اليَهُودُ فَسادًا وطائِفَةٌ أشارُوا بِالِاسْتِمْرارِ عَلى القَطْعِ لِأنَّهُ يَغِيظُهُمْ، فَصَوَّبَ سُبْحانَهُ في الآيَةِ مَن أمَرَ بِالكَفِّ وحَلَّلَ [مَن أشارُوا بِالِاسْتِمْرارِ بِالقَطْعِ] مِنَ الإثْمِ، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلى جَوازِ إفْسادِ [أمْوالِ] أهْلِ الحَرْبِ عَلى أيِّ حالٍ كانَ مُثْمِرًا كانَ أوْ لا بِالتَّحْرِيقِ والتَّغْرِيقِ والهَدْمِ وغَيْرِهِ لِإخْزائِهِمْ بِذَلِكَ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب