الباحث القرآني
ولَمّا كانَ هَذا الدَّلِيلُ [أيْضًا] تَتَعَذَّرُ الإحاطَةُ بِهِ، قالَ دالًّا عَلَيْهِ بِأمْرٍ جُزْئِيٍّ واقِعٍ بِعِلْمِ المُحَدَّثِ عَنْهُ حَقِيقَةً، فَإنْ عانَدَ بَعْدَهُ سَقَطَ عَنْهُ الكَلامُ إلّا بِحَدِّ الحُسامِ: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ أيْ تَعْلَمْ عِلْمًا هو كالرُّؤْيَةِ، ودَلَّ عَلى سُفُولِ رُتْبَةِ المَرْئِيِّ بِإبْعادِهِ عَنْ أعْلى النّاسِ قَدْرًا بِحَرْفِ الغايَةِ فَقالَ: ﴿إلى الَّذِينَ﴾ ولَمّا كانَ العاقِلُ مَن إذا زُجِرَ عَنْ شَيْءٍ انْزَجَرَ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ لا ضَرَرَ عَلَيْهِ في فِعْلِ ما زُجِرَ عَنْهُ، [عَبَّرَ] بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ فَقالَ: ﴿نُهُوا﴾ أيْ مِن ناهٍ ما لا يَنْبَغِي لِلْمَنهِيِّ مُخالَفَتُهُ حَتّى يَعْلَمَ أنَّهُ مَأْمُونُ الغائِلَةِ ﴿عَنِ النَّجْوى﴾ أيِ الإسْرارِ لِإحْلالِ أنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ في مَحَلِّ التُّهْمَةِ بِما لا يُرْضى [مِن] رَسُولِ اللَّهِ ﷺ - كَما قالَ أبُو العَلاءِ المَعَرِّيُّ:
؎والخِلُّ كالماءِ يُبْدِي لِي ضَمائِرَهُ ∗∗∗ مَعَ الصَّفاءِ ويُخْفِيها مِنَ الكَدَرِ
ولَمّا كانَ النّاهِي هو اللَّهَ، فَكانَ هَذا لِلنَّهْيِ أهْلًا لِأنْ يُبْعَدَ مِنهُ غايَةَ البُعْدِ، عَبَّرَ بِأداةِ التَّراخِي فَقالَ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ أيْ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِمْرارِ لِأنَّهُ إذا وقَعَتْ مَرَّةً بادَرُوا إلى التَّوْبَةِ مِنها أوْ فَلْتَةً وقَعَتْ مَعْفُوًّا عَنْها ﴿لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ أيْ مِن غَيْرِ أنْ يُعِدُّوا لِما يُتَوَقَّعُ مِن جِهَةِ النّاهِي مِنَ (p-٣٦٨)الضَّرَرِ عُدَّةً ﴿ويَتَناجَوْنَ﴾ أيْ يُقْبِلُ جَمِيعُهم عَلى المُناجاةِ إقْبالًا واحِدًا، فَيَفْعَلُ كُلٌّ مِنهم ما يَفْعَلُهُ الآخَرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى عَلى سَبِيلِ الِاسْتِمْرارِ، وقِراءَةُ حَمْزَةَ ”ويُنْتِجُونَ“ بِصِيغَةِ الِافْتِعالِ يَدُلُّ عَلى التَّعَمُّدِ والمُعانَدَةِ ﴿بِالإثْمِ﴾ [أيْ] بِالشَّيْءِ الَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِمْ بِهِ الإثْمُ بِالذَّنْبِ وبِالكَذِبِ وبِما لا يَحِلُّ. ولَمّا ذَكَرَ المُطْلَقَ أتْبَعَهُ المُقَيَّدَ بِالشِّدَّةِ فَقالَ: ﴿والعُدْوانِ﴾ أيِ العَدُوِّ الَّذِي هو نِهايَةٌ في قَصْدِ الشَّرِّ بِالإفْراطِ في مُجاوَزَةِ الحُدُودِ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ شَرًّا في نَفْسِهِ أتْبَعَهُ الإشارَةَ إلى أنَّ الشَّيْءَ يَتَغَيَّرُ وصْفُهُ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن يُفْعَلُ مَعَهُ فَيَكْبُرُ بِكِبَرِ المَعْصِيِّ فَقالَ: ﴿ومَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ أيِ الَّذِي جاءَ إلَيْهِمْ مِنَ المَلِكِ الأعْلى، وهو كامِلُ الرُّسْلِيَّةِ، لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا إلى جَمِيعِ الخَلْقِ وفي كُلِّ الأزْمانِ، فَلا نَبِيَّ بَعْدَهُ، فَهو لِذَلِكَ يَسْتَحِقُّ غايَةَ الإكْرامِ.
ولَمّا أنْهى تَعْظِيمَ الذَّنْبِ إلى غايَتِهِ آذَنَ بِالغَضَبِ بِأنْ لَفَتَ الكَلامَ إلى الخِطابِ فَقالَ: ﴿وإذا جاءُوكَ﴾ أيُّها الرَّسُولُ الأعْظَمُ الَّذِي يَأْتِيهِ الوَحْيُ مِمَّنْ أرْسَلَهُ ولَمْ يَغِبْ أصْلًا عَنْهُ لِأنَّهُ المُحِيطُ عِلْمًا وقُدْرَةً ﴿حَيَّوْكَ﴾ أيْ واجَهُوكَ بِما يُعِدُّونَهُ تَحِيَّةً مِن قَوْلِهِمُ: السّامُّ عَلَيْكَ ونَحْوِهِ، وعَمَّ كَلَّ لَفْظٍ بِقَوْلِهِ: ﴿بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْلى الَّذِي لا أمْرَ (p-٣٦٩)لِأحَدٍ مَعَهُ فَمَن تَجاوَزَ ما شَرَعَهُ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِسُخْطِهِ، ومِمّا دَخَلَ فِيهِ قَوْلُ بَعْضِ النّاسِ لِبَعْضٍ ”صَباحُ الخَيْرِ“ ونَحْوُهُ مُعْرِضًا عَنِ السَّلامِ. ولَمّا كانَ المَشْهُورُ عَنْهم أنَّهم يُخْفُونَ ذَلِكَ جُهْدَهم ويُعْلِنُونَ بِإمْلاءِ اللَّهِ لَهم أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وإنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلى أنْ يَنْتَقِمَ مِنهُمْ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَقُولُونَ﴾ أيْ عِنْدَ الِاسْتِدْراجِ بِالإمْلاءِ مُجَدِّدِينَ قَوْلَهم مُواظِبِينَ عَلَيْهِ ﴿فِي أنْفُسِهِمْ﴾ مِن غَيْرِ أنْ يُطْلِعُوا عَلَيْهِ أحَدًا: ﴿لَوْلا﴾ أيْ هَلّا ولِمَ لا ﴿يُعَذِّبُنا اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلى زَعْمِ مَن باهانا ﴿بِما نَقُولُ﴾ مُجَدِّدِينَ مَعَ المُواظَبَةِ إنْ كانَ يَكْرَهُهُ - كَما يَقُولُ مُحَمَّدٌ ﷺ.
ولَمّا تَضَمَّنَ هَذا عِلْمَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِهَذِهِ الجُزْئِيَّةِ مِن هَؤُلاءِ القَوْمِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ عِلْمُهُ سُبْحانَهُ بِجَمِيعِ ما في الكَوْنِ، لِأنَّ نِسْبَةَ الكُلِّ إلَيْهِ عَلى حَدٍّ سَواءٍ، فَإذا ثَبَتَ عِلْمُهُ بِالبَعْضِ ثَبَتَ عِلْمُهُ بِالكُلِّ [فَثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ عَلى الكُلِّ] فَكانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا، [قالَ] مُهَدِّدًا لَهم مُشِيرًا إلى أنَّهُ لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذا إلّا إنْ كانَ قاطِعًا بِأنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ عَذابٌ، أوْ يَحْصُلُ لَهُ مِنهُ ما لا يُبالِي بِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ بِقُوَّتِهِ: ﴿حَسْبُهُمْ﴾ أيْ كِفايَتُهم في الِانْتِقامِ مِنهم وفي عَذابِهِمْ ورَشْقِهِمْ بِسِهامِ لَهِيبِها ومَنكَأِ شَرَرِها وتَصْوِيبِ صَواعِقِها ﴿جَهَنَّمُ﴾ أيِ الطَّبَقَةُ الَّتِي تَلْقاهم بِالتَّجَهُّمِ والعُبُوسَةِ والتَّكَرُّهِ والفَظاظَةِ. فَإنْ حَصَلَ لَهم في الدُّنْيا عَذابٌ كانَ (p-٣٧٠)زِيادَةً عَلى الكِفايَةِ، فاسْتِعْجالُهم بِالعَذابِ مَحْضُ رُعُونَةٍ ﴿يَصْلَوْنَها﴾ أيْ يُقاسُونَ عَذابَها دائِمًا فَإنِّي أعْدَدْتُها لَهم. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ فَإنَّهم [يَصِيرُونَ] إلَيْها ولا بُدَّ، تَسَبَّبَ عَنْهُ قَوْلُهُ: ﴿فَبِئْسَ المَصِيرُ﴾ أيْ مَصِيرُهُمْ، وسَبَبُ ذَلِكَ أنَّ اليَهُودَ والمُنافِقِينَ كانُوا يَتَناجَوْنَ فِيما بَيْنَهم يَنْظُرُونَ إلى المُؤْمِنِينَ ويَتَغامَزُونَ يُوهِمُونَهم أنَّهم يَتَناجَوْنَ فِيما يَسُوءُهم فَيَظُنُّونَ أنَّهُ بَلَغَهم شَيْءٌ مِن إخْوانِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا في السَّرايا غُزاةً في سَبِيلِ اللَّهِ مِن قَتْلٍ أوْ هَزِيمَةٍ فَيُحْزِنُهم ذَلِكَ، فَشَكَوْا [ذَلِكَ] إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَهاهم عَنِ التَّناجِي في هَذِهِ الحالَةِ فَلَمْ يَنْتَهُوا، [و]رَوى أحْمَدُ والبَزّارُ والطَّبَرانِيُّ بِإسْنادٍ - قالَ الهَيْثَمِيُّ في المَجْمَعِ إنَّهُ جَيِّدٌ لِأنَّ حَمّادًا سَمِعَ مِن عَطاءِ بْنِ السّائِبِ في حالَةِ الصِّحَّةِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما «أنَّ اليَهُودَ كانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: سامٌ عَلَيْكَ. ثُمَّ يَقُولُونَ في أنْفُسِهِمْ: ﴿لَوْلا يُعَذِّبُنا اللَّهُ بِما نَقُولُ﴾ فَنَزَلَتْ». ورَوى أبُو يَعْلى عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ عِنْدَ ذَلِكَ: «إذا سَلَّمَ عَلَيْكم أحَدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ فَقُولُوا”وعَلَيْكَ»“ .
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ نُهُوا۟ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ یَعُودُونَ لِمَا نُهُوا۟ عَنۡهُ وَیَتَنَـٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِ وَمَعۡصِیَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَاۤءُوكَ حَیَّوۡكَ بِمَا لَمۡ یُحَیِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَیَقُولُونَ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا یُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ یَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق