الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ عَذابَهُمْ، [ذَكَرَ] وقْتَهُ عَلى وجْهٍ مُقَرِّرٍ لِما مَضى مِن شُمُولِ عِلْمِهِ وكَمالِ قُدْرَتِهِ فَقالَ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ يَكُونُ ذَلِكَ في وقْتِ إعادَةِ المَلِكِ الأعْظَمِ لِلْكافِرِينَ المُصَرَّحِ بِهِمْ والمُؤْمِنِينَ المُشارِ إلَيْهِمْ أحْياءً كَما كانُوا ﴿جَمِيعًا﴾ في حالِ كَوْنِهِمْ مُجْتَمِعِينَ في البَعْثِ. ولَمّا كانَ لا أوْجَعَ مِنَ التَّبْكِيتِ بِحَضْرَةِ بَعْضِ النّاسِ فَكَيْفَ إذا كانَ بِحَضْرَتِهِمْ كُلِّهِمْ فَكَيْفَ إذا كانَ بِمَرْأًى مِن جَمِيعِ الخَلائِقِ ومَسْمَعٍ، سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ وعَقَّبَ قَوْلَهُ: ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾ [أيْ] يُخْبِرُهم إخْبارًا عَظِيمًا مُسْتَقْصًى ﴿بِما عَمِلُوا﴾ إخْزاءً لَهم وإقامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
ولَمّا كانَ ضَبْطُ ذَلِكَ أمْرًا عَظِيمًا، اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ بَيانًا لِهَوانِهِ عَلَيْهِ: ﴿أحْصاهُ اللَّهُ﴾ أيْ أحاطَ بِهِ عَدَدًا كَمًّا وكَيْفًا وزَمانًا ومَكانًا بِما لَهُ مِن صِفاتِ الجَلالِ والجَمالِ. ولَمّا ذَكَرَ إحْصاءَهُ لَهُ، فَكانَ رُبَّما ظُنَّ أنَّهُ مِمّا يُمْكِنُ في العادَةِ إحْصاؤُهُ، نَفى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ونَسُوهُ﴾ أيْ كُلُّهم مُجْتَمِعِينَ لِخُرُوجِهِ عَنِ الحَدِّ في الكَثْرَةِ فَكَيْفَ بِكُلِّ واحِدٍ عَلى انْفِرادِهِ ونَسُوا ما فِيهِ مِنَ المَعاصِي تَهاوُنًا بِها، وذَلِكَ عَيْنُ التَّهاوُنِ بِاللَّهِ والِاجْتِراءِ عَلَيْهِ، (p-٣٥٨)قالَ القُشَيْرِيُّ: إذا حُوسِبَ أحَدٌ في القِيامَةِ عَلى عَمَلٍ عَمِلَهُ تَصَوَّرَ لَهُ ما فَعَلَهُ ثُمَّ يَذْكُرُ حَتّى كَأنَّهُ في تِلْكَ الحالَةِ قامَ مِن بِساطِ الزَّلَّةِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الخَجَلِ والنَّدَمِ ما يَنْسى في جَنْبِهِ كُلَّ عُقُوبَةٍ، فَسَبِيلُ المُسْلِمِ أنْ لا يُخالِفَ أمْرَ مَوْلاهُ ولا يَحُومَ حَوْلَ مُخالَفَةِ أمْرِهِ، فَإنْ جَرى المَقْدُورُ ووَقَعَ في هُجْنَةِ التَّقْصِيرِ فَلْيَكُنْ مِن زَلَّتِهِ عَلى بالٍ، ولْيَتَضَرَّعْ إلى اللَّهِ بِحُسْنِ الِابْتِهالِ.
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ بِما أرْشَدَ إلَيْهِ العَطْفُ عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ: فاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ وغَيْرِهِ عَلِيمٌ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿واللَّهُ﴾ أيْ بِما لَهُ مِنَ القُدْرَةِ الشّامِلَةِ والعِلْمِ المُحِيطِ ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ عَلى الإطْلاقِ مِن غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ أصْلًا ﴿شَهِيدٌ﴾ أيْ حَفِيظٌ حاضِرٌ لا يَغِيبُ، ورَقِيبٌ لا يَغْفُلُ، حِفْظُهُ لَهُ ورَقْبُهُ وحُضُورُهُ إيّاهُ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِ قاهِرٌ لَهُ بِإحاطَةِ قَهْرِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِيُمْكِنَ حِفْظُهُ لَهُ عَلى أتَمِّ وجْهٍ يُرِيدُهُ.
وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ [بْنُ] الزُّبَيْرِ: لَمّا نَزَّهَ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ عَنْ تَقَوُّلِ المُلْحِدِينَ، وأعْلَمَ أنَّ العالَمَ بِأسْرِهِ يُنَزِّهُهُ عَنْ ذَلِكَ بِألْسِنَةِ أحْوالِهِمْ لِشَهادَةِ العَوالِمِ عَلى أنْفُسِها بِافْتِقارِها لِحَكِيمٍ أوْجَدَها، لا يُمْكِنُ [أنْ] يُشْبِهَ شَيْئًا مِنها بَلْ يَتَنَزَّهُ مِن أوْصافِها ويَتَقَدَّسُ عَنْ سِماتِها، فَقالَ (p-٣٥٩)﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الحديد: ١] ومَضَتْ أيْ تَعَرَّفَ بِعَظِيمِ سُلْطانِهِ وعَلِيِّ مُلْكِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ الخِطابُ إلى عِبادِهِ في قَوْلِهِ: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [الحديد: ٧] إلى ما بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الآيِ، وكانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنَ الِالتِفاتِ، والواقِعُ [هُنا] مِنهُ أشْبَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] فَإنَّهُ بَعْدَ تَفْصِيلِ حالِ المُتَّقِينَ وحالِ مَن جُعِلَ في طَرَفٍ مِنهم وحالِ مَن يُشَبَّهُ بِظاهِرِهِ بِالمُتَّقِينَ وهو مَعْدُودٌ في شِرارِ الكافِرِينَ، فَلَمّا تَمَّ هَذا النَّمَطُ عَدَلَ بَعْدَهُ إلى دُعاءِ الخَلْقِ إلى عِبادَةِ اللَّهِ وتَوْحِيدِهِ ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] ثُمَّ عَدَلَ بِالكَلامِ جُمْلَةً وصَرَفَ الخِطابَ إلى تَعْرِيفِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَيْنَ أيْدِي الخَلْقِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فَجاءَ ضَرْبًا مِنَ الِالتِفاتِ فَكَذا الواقِعُ هُنا بَيَّنَ سُبْحانَهُ حالَ مُشْرِكِي العَرَبِ وقَبَّحَ عِنادَهم وقَرَّعَهم ووَبَّخَهم في عِدَّةِ سُوَرٍ غالِبُ آيِها جارٍ عَلى ذَلِكَ ومُجَدِّدٌ لَهُ أوَّلُها سُورَةُ ”ص“ كَما نَبَّهَ عَلَيْهِ في سُورَةِ القَمَرِ، وإلى الغايَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيها إلى أنْ ورَدَتْ سُورَةُ القَمَرِ مُنْبِئَةً بِقَطْعِ دابِرِهِمْ، وانْجَرَّ فِيها الإعْذارُ المُنَبَّهُ عَلَيْهِ وكَذا في سُورَةِ الرَّحْمَنِ بَعْدَها، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيفِ بِحالِ النُّزُلِ الأُخْراوِيِّ في سُورَةِ الواقِعَةِ مَعَ زِيادَةِ تَقْرِيعٍ وتَوْبِيخٍ عَلى مُرْتَكَباتٍ اسْتَدْعَتْ تَسْبِيحَهُ تَعالى وتَقْدِيسَهُ عَنْ شَنِيعِ افْتِرائِهِمْ فَأُتْبِعَتْ بِسُورَةِ الحَدِيدِ، ثُمَّ صَرَفَ فِيها (p-٣٦٠)الخِطابَ إلى المُؤْمِنِينَ، واسْتَمَرَّ ذَلِكَ إلى آخِرِ السُّورَةِ، جَرَتْ سُورَةُ المُجادِلَةِ عَلى هَذا القَصْدِ مَصْرُوفًا خِطابُها إلى نازِلَةِ تَشَوُّفِ المُؤْمِنِينَ إلى تَعَرُّفِ حُكْمِها، وهو الظِّهارُ المُبَيَّنُ أمْرُهُ فِيها، فَلَمْ يَعُدْ في الكَلامِ بَعْدُ كَما كانَ قَدْ صَرَفَ إلَيْهِ في قَوْلِهِ ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [الحديد: ٧] بِأكْثَرَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِبَيانِ حُكْمٍ يَقَعُ مِنهُمْ، ثُمَّ أنَّ السُّوَرَ الوارِدَةَ بَعْدُ إلى آخِرِ الكِتابِ اسْتَمَرَّ مُعْظَمُها عَلى هَذا الغَرَضِ لِانْقِضاءِ ما قَصَدَ مِنَ التَّعْرِيفِ بِأخْبارِ القُرُونِ /السّالِفَةِ والأُمَمِ الماضِيَةِ، وتَقْرِيعِ مَن عانَدَ وتَوْبِيخِهِ، وذِكْرِ مِثالِ الخَلْقِ واسْتِقْرارِهِمُ الأُخْراوِيِّ، وذِكْرِ تَفاصِيلِ التَّكالِيفِ والجَزاءِ عَلَيْها مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ، وما بِهِ اسْتِقامَةُ مَنِ اسْتَجابَ وآمَنَ وما يَجِبُ أنْ يَلْتَزِمَهُ عَلى دَرَجاتِ التَّكالِيفِ وتَأْكِيدِها، فَلَمّا كَمَّلَ ذَلِكَ صَرَفَ الكَلامَ إلى ما يَخُصُّ المُؤْمِنِينَ في أحْكامِهِمْ وتَعْرِيفِهِمْ بِما فِيهِ مِن خَلاصِهِمْ، فَمُعْظَمُ آيِ سُورَةٍ بَعْدُ هَذا شَأْنُها، وإنِ اتَّجَرَ غَيْرُها فَلِاسْتِدْعاءٍ مُوجِبٍ وهو الأقَلُّ كَما بَيَّنّا - انْتَهى.
{"ayah":"یَوۡمَ یَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِیعࣰا فَیُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤا۟ۚ أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق