الباحث القرآني

ولَمّا دَلَّ خَتْمُ الآيَةِ عَلى التَّخْفِيفِ، وكانَ قَدْ يَدَّعِي مُدَّعُونَ عَدَمَ الوِجْدانِ كَذِبًا فَيَحْصُلُ لَهم حَرَجٌ، وكانَ تَعالى شَدِيدَ العِنايَةِ بِنَجاةِ هَذِهِ الأُمَّةِ، دَلَّ عَلى لُطْفِهِ بِهِمْ بِنَسْخِهِ بَعْدَ فَرْضِهِ. فَقالَ مُوَبِّخًا لِمَن يَشِحُّ عَلى المالِ نادِبًا إلى الخُرُوجِ عَنْهُ مِن غَيْرِ إيجابٍ: ﴿أأشْفَقْتُمْ﴾ أيْ خِفْتُمْ مِنَ العَيْلَةِ لِما يَعِدُكم بِهِ الشَّيْطانُ مِنَ الفَقْرِ خَوْفًا كادَ أنْ يَفْطُرَ قُلُوبَكم ﴿أنْ تُقَدِّمُوا﴾ [أيْ] بِإعْطاءِ الفُقَراءِ وهم إخْوانُكم ﴿بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ﴾ أيْ لِلرَّسُولِ ﷺ، وجَمَعَ لِأنَّهُ أكْثَرُ تَوْبِيخًا مِن حَيْثُ إنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّجْوى تَتَكَرَّرُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ خَوْفِهِمْ مِن مَشَقَّةِ النَّبِيِّ ﷺ مِن ذَلِكَ ووُجُودِ خَوْفِهِمْ مِن فِعْلِ التَّصَدُّقِ فَقالَ: ﴿صَدَقاتٍ﴾ وكانَ بَعْضُهم تَرَكَ وهو واجِدٌ فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ رَحْمَتَهُ لَهم بِنَسْخِها عَنْهم لِذَلِكَ في مَوْضِعِ العِقابِ لِغَيْرِهِمْ عِنْدَ التَّرْكِ. ولَمّا كانَ مَن قَبْلَنا [إذا] كُلِّفُوا الأمْرَ الشّاقَّ وحُمِلُوا عَلى التِزامِهِ بِمِثْلِ رَفْعِ الجَبَلِ فَوْقِهِمْ، فَإذا خالَفُوا عُوقِبُوا، بَيَّنَ فَضْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ بِأنَّهُ خَفَّفَ عَنْهُمْ، فَقالَ مُعَبِّرًا بِما قَدْ يُشْعِرُ بِأنَّ بَعْضَهم تَرَكَ عَنْ قُدْرَةٍ: ﴿فَإذْ﴾ أيْ فَحِينَ ﴿لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أيْ ما أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ لِلنَّجْوى بِسَبَبِ هَذا الإشْفاقِ ﴿وتابَ اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْلى الَّذِي كانَ مِن شَأْنِ ما هو عَلَيْهِ مِنَ العَظَمَةِ أنْ يُعاقِبَ مَن تَرَكَ أمْرَهُ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيْ رَجَعَ (p-٣٨٤)بِمَن تَرَكَ الصَّدَقَةَ عَنْ وِجْدانٍ، وبِمَن تَصَدَّقَ وبِمَن لَمْ يَجِدْ إلى مِثْلِ حالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِن سَعَةِ الإباحَةِ والعَفْوِ والتَّجاوُزِ والمَعْذِرَةِ والرُّخْصَةِ والتَّخْفِيفِ قَبْلَ الإيجابِ ولَمْ يُعاقِبْكم عَلى التَّرْكِ ولا عَلى ظُهُورِ اشْتِغالِ ذَلِكَ مِنكُمْ، قالَ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: كانَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيالٍ ثُمَّ نُسِخَ، وقالَ الكَلْبِيُّ: ما كانَتْ إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ. وعَلى كُلٍّ مِنهُما فَهي لَمْ تَتَّصِلْ بِما قَبْلَها نُزُولًا وإنِ اتَّصَلَتْ بِها تِلاوَةً وحُلُولًا ﴿فَأقِيمُوا﴾ بِسَبَبِ العَفْوِ عَنْكم شُكْرًا عَلى هَذا الكَرَمِ والحِلْمِ ﴿الصَّلاةَ﴾ الَّتِي هي طُهْرَةٌ لِأرْواحِكم ووَصْلَةٌ لَكم بِرَبِّكم ﴿وآتُوا الزَّكاةَ﴾ الَّتِي هي نَزاهَةٌ لِأبْدانِكم وتَطْهِيرٌ ونَماءٌ لِأمْوالِكم وصِلَةٌ بِإخْوانِكُمْ، ولا تُفَرِّطُوا في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ فَتُهْمِلُوهُ، فالصَّلاةُ نُورٌ تَهْدِي إلى المَقاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ، وتُعِينُ عَلى نَوائِبِ الدّارَيْنِ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ عَلى صِحَّةِ القَصْدِ في الصَّلاةِ. ولَمّا خَصَّ أشْرَفَ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ وأعْلى المَناسِكِ المالِيَّةِ، عَمَّ فَقالَ حاثًّا عَلى زِيادَةِ النُّورِ والبُرْهانِ اللَّذَيْنِ بِهِما تَقَعُ المُشاكَلَةُ في الأخْلاقِ فَتَكُونُ المُناجاةُ عَنْ أعْظَمِ إقْبالٍ وإنْفاقٍ فَقالَ: ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ فَلَمْ يَشْرَكْهُ في إبْداعِهِ لَكم عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ أحَدٌ (p-٣٨٥)﴿ورَسُولَهُ﴾ الَّذِي عَظَمَتُهُ مِن عَظَمَتِهِ في سائِرِ ما يَأْمُرُ بِهِ فَإنَّهُ ما أمَرَكم لِأجْلِ إكْرامِ رَسُولِكم ﷺ إلّا بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وجَعَلَ المُحافَظَةَ عَلى ذَلِكَ قائِمَةً مَقامَ ما أمَرَكم بِهِ، ثُمَّ نَسَخَهُ عَنْكم مِن تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلى النَّجْوى. ولَمّا كانَ قَدْ عَفا عَنْ أمْرٍ أشْعَرَ السِّياقُ بِأنَّهُ وقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ، فَكانَ ذَلِكَ رُبَّما جَرى عَلى انْتِهاكِ الحُرُماتِ، رَهَّبَ مِن جَنابِهِ بِإحاطَةِ العِلْمِ، وعَبَّرَ بِالخَبَرِ لِأنَّ أوَّلَ الآيَةِ وبَّخَ عَلى أمْرٍ باطِنٍ ولَمْ يُبالِغْ بِتَقْدِيمِ الجارِّ لِما فِيها مِنَ الأُمُورِ الظّاهِرَةِ. فَقالَ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فاللَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ يُطِيعُونَ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا ﴿خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ أيْ تُجَدِّدُونَ عَمَلَهُ، يَعْلَمُ بَواطِنَهُ كَما يَعْلَمُ ظَواهِرَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب