الباحث القرآني

ولَمّا عَظَّمَ هَذا الأجْرَ الكَرِيمَ بِبَيانِ ما لِأهْلِهِ في الوَقْتِ الكائِنِ فِيهِ، عَظَّمَهُ بِما لِأضْدادِهِمْ مِنَ النَّكالِ، فَقالَ مُبْدِلًا مِنَ الظَّرْفِ الأوَّلِ: ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ أيْ قَوْلًا مُجَدَّدًا لِما يُلْجِئُ إلَيْهِ مِنَ الأُمُورِ العَظِيمَةِ الشّاقَّةِ ﴿المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ﴾ أيْ بِالعَراقَةِ في إظْهارِ الإيمانِ وإبْطانِ الكُفْرانِ ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ ظاهِرًا وباطِنًا، وأمّا مَن عَلا مِن هَذا السِّنِّ مِنَ المُؤْمِنِينَ ومَن فَوْقَهم فالظّاهِرُ أنَّهم لا يَرَوْنَهم لِيَطْمَعُوا في مُناداتِهِمْ ”وأيْنَ الثُّرَيّا مِن يَدِ المُتَناوِلِ“ ﴿انْظُرُونا﴾ أيِ انْظُرُونا بِأنْ تَمْكُثُوا في مَكانِكم لِنَلْحَقَ بِكُمْ، وكَأنَّ الفِعْلَ جُرِّدَ في قِراءَةِ الجَماعَةِ لِاقْتِضاءِ الحالِ الإيجازَ بِغايَةِ [ما] تُوصِلُ المَقْدِرَةُ إلَيْهِ خَوْفَ الفَوْتِ، لِأنَّ المَسْؤُولِينَ يُسْرِعُونَ إلى الجَنَّةِ كالبَرْقِ الخاطِفِ، وقَدْ حَقَّقَتِ المَعْنى قِراءَةُ حَمْزَةَ بِقَطْعِ الهَمْزَةِ وكَسْرِ الظّاءِ أيْ أخِّرُونا في المَشْيِ وتَأنَّوْا عَلَيْنا وأمْهِلُوا عَلَيْنا، لا تَطْلُبُوا مِنّا السُّرْعَةَ فِيهِ بَلِ امْكُثُوا في مَكانِكم لِنَنْظُرَ في أمْرِنا كَيْفَ نَلْحَقُ بِكُمْ، والحاصِلُ أنَّهم عَدُّوا تَأنِّيَهم في المَشْيِ وتَلَبُّثَهم لِيَلْحَقُوا بِهِمْ إنْظارًا لَهم ﴿نَقْتَبِسْ﴾ أيْ نَأْخُذْ ونُصِبْ ونَسْتَصْبِحْ ﴿مِن نُورِكُمْ﴾ أيْ هَذا الَّذِي نَراهُ لَكم ولا يَلْحَقُنا مِنهُ بِشَيْءٍ كَما كُنّا في الدُّنْيا نَرى إيمانَكم بِما نَرى مِن ظَواهِرِكم (p-٢٧٤)ولا نَتَعَلَّقُ مِن ذَلِكَ بِشَيْءٍ جَزاءً وِفاقًا، وسَبَبُ هَذا القَوْلِ أنَّهم يُعْطَوْنَ مَعَ المُؤْمِنِينَ نُورًا خَدِيعَةً لَهم بِما خادَعُوا في الدُّنْيا لِتَعْظُمَ عَلَيْهِمُ المَشَقَّةُ بِفَقْدِهِ لِأنَّهُ لا يَلْبَثُ أنْ يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا وظُلْمَةً فَتُطْفِئُ نُورَهم ويَبْقَوْنَ في الظُّلْمَةِ، وإلى ذَلِكَ يَنْظُرُ قَوْلُ المُؤْمِنِينَ ﴿أتْمِمْ لَنا نُورَنا﴾ [التحريم: ٨] أيْ [لا] تُطْفِئْهُ كَما أطْفَأْتَ نُورَ المُنافِقِينَ. ولَمّا كانَ المُنْكِئُ لَهم إنَّما هو الرَّدُّ مِن أيِّ قائِلٍ كانَ، بَنى لِلْمَفْعُولِ قَوْلَهُ: ﴿قِيلَ﴾ أيْ لَهم جَوابًا لِسُؤالِهِمْ قَوْلَ رَدٍّ وتَوْبِيخٍ وتَهَكُّمٍ وتَنْدِيمٍ: ﴿ارْجِعُوا وراءَكُمْ﴾ أيْ في جَمِيعِ جِهاتِ الوَراءِ الَّتِي هي أبْعَدُ الجِهاتِ عَنِ الخَيْرِ كَما كُنْتُمْ في الدُّنْيا لا تَزالُونَ مُرْتَدِّينَ عَلى أعْقابِكم عَمّا يَسْتَحِقُّ أنْ يُقْبَلَ عَلَيْهِ ويُسْعى إلَيْهِ ﴿فالتَمِسُوا﴾ بِسَبَبِ ذَلِكَ الرُّجُوعِ ﴿نُورًا﴾ ويَصِحُّ أنْ يُرادَ بِالوَراءِ الدُّنْيا لِأنَّ هَذا النُّورَ إنَّما هو مِنها بِسَبَبِ ما عَمِلُوا فِيها مِنَ الأعْمالِ الزّاكِيَةِ والمَعارِفِ الصّافِيَةِ، ولِهَذا قالَ الإمامُ الغَزالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِ المَحَبَّةِ مِنَ الإحْياءِ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأنْوارَ لا بُدَّ أنْ يَتَجَدَّدَ أصْلُها في الدُّنْيا ثُمَّ يَزْدادَ في الآخِرَةِ إشْراقًا [فَأمّا] أنْ يَتَجَدَّدَ ثَمَّ نُورٌ فَلا. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَرَجَعُوا أوْ فَأقامُوا في الظُّلْمَةِ، سَبَّبَ عَنْهُ وعَقَّبَ قَوْلَهُ: ﴿فَضُرِبَ﴾ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلى نَحْوِ الأوَّلِ، ولِإفادَةِ أنَّ الضَّرْبَ كانَ في غايَةِ السُّرْعَةِ والسُّهُولَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الفاءُ مُعَقِّبَةً عَلى ما (p-٢٧٥)قَبْلَهُ مِن غَيْرِ تَقْدِيرٍ ﴿بَيْنَهُمْ﴾ أيْ في [جَمِيعِ] المَسافَةِ الَّتِي بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وأضْدادِهِمْ في وقْتِ قَوْلِهِمْ هَذا. ولَمّا كانَ المَقْصُودُ أنَّ ضَرْبَهُ كانَ في غايَةِ السُّرْعَةِ، لَمْ يُوقِعِ الفِعْلَ وأتى بِالفاءِ لِيُفِيدَ أنَّهُ كانَ كَأنَّهُ عَصًا ضُرِبَتْ بِهِ الأرْضُ ضَرْبَةً واحِدَةً، فَقالَ: ﴿بِسُورٍ﴾ أيْ جِدارٍ مُحِيطٍ مُحِيلٍ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ لا يَشِذُّ عَنْهُ أحَدٌ مِنهم ولا يَقْدِرُ أحَدٌ مِمَّنْ سِواهم أنْ يَتَجاوَزَهُ إلَيْهِمْ ﴿لَهُ بابٌ﴾ مُوكَلٌ بِهِ حِجابٌ لا يَفْتَحُونَ إلّا لِمَن أذِنَ اللَّهُ لَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِما يَهْدِيهِمْ إلَيْهِ مِن نُورِهِمُ الَّذِي بَيْنَ أيْدِيهِمْ لِشَفاعَةٍ أوْ نَحْوِها ﴿باطِنُهُ﴾ أيْ ذَلِكَ السُّورِ والبابِ وهو الَّذِي مِن جِهَةِ الَّذِينَ آمَنُوا جَزاءً لِإيمانِهِمُ الَّذِي هو غَيْبٌ ﴿فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ وهي ما لَهم مِنَ الكَرامَةِ بِالجَنَّةِ الَّتِي هي ساتِرَةٌ بِبَطْنِ مَن فِيها بِأشْجارِها وبِأسْبابِها كَما كانَتْ بَواطِنُهم مِلاءً رَحْمَةً ﴿وظاهِرُهُ﴾ أيِ السُّورِ أوِ البابِ الَّذِي يَظْهَرُ لِأهْلِ النّارِ، مُبْتَدِئٌ ﴿مِن قِبَلِهِ﴾ أيْ تُجاهَ ذَلِكَ الظّاهِرِ وناحِيَتَهُ وجِهَتَهُ وعِنْدَهُ ﴿العَذابُ﴾ مِنَ النّارِ ومُقَدِّماتِها لِاقْتِصارِ أهْلِهِ عَلى الظَّواهِرِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لَهم نُفُوذٌ إلى باطِنٍ وعَكْسُ ما أرادُوا مِن حِفْظِ ظَواهِرِهِمْ في الدُّنْيا مَعَ فَسادِ بَواطِنِهِمْ، ودَلَّ عَلى ما أفْهَمَهُ التَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ في ”يَقُولُ“ مِنَ التَّكْرِيرِ بِقَوْلِهِ اسْتِئْنافًا:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب