الباحث القرآني

ولَمّا كانَ مِنَ العَظَمَةِ الباهِرَةِ ما ظَهَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ مِن أفانِينِ الإنْعامِ في الدّارَيْنِ، وبَدَأ بِنِعْمَةِ الآخِرَةِ لِكَوْنِها النَّتِيجَةَ، ثُمَّ دَلَّ عَلَيْها بِإنْعامِهِ في الدُّنْيا فَكانَ تَذْكِيرًا بِالنِّعَمِ لِتُشْكَرَ، ودَلالَةً عَلى النَّتِيجَةِ لِتُذْكَرَ، وفي كُلِّ حالَةٍ تُسْتَحْضَرُ فَلا تُكْفَرُ، فَوَصَلَتِ الدَّلالَةُ إلى حَدٍّ هو أوْضَحُ مِنَ المَحْسُوسِ وأضْوَأُ مِنَ المَشْمُوسِ، وكانَ مَعَ هَذِهِ الأُمُورِ الجَلِيلَةِ (p-٢٣٣)فِي مَظْهَرٍ أعْجَزَ الخَلائِقَ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ مِن كُلِّ وجْهٍ، [أمّا] مِن جِهَةِ الجَوابِ عَنْ تَشَبُّهِهِمْ وتَعَنُّتِهِمْ فَلِكَوْنِهِ يُطابِقُ ذَلِكَ مُطابَقَةً لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِثْلَها، ويَزِيدُ عَلى ذَلِكَ بِما شاءَ اللَّهُ مِنَ المَعارِفِ مِن غَيْرِ أنْ يَدَعَ لَبْسًا، و[أمّا] مِن جِهَةِ المُفْرَداتِ فَلِكَوْنِها النِّهايَةَ في جَلالَةِ الألْفاظِ ورَشاقَةِ الحُرُوفِ وجَمْعِ المَعانِي، فَيُفِيدُ ذَلِكَ أنَّهُ لا تَقُومُ كَلِمَةٌ أُخْرى مَقامَ كَلِمَةٍ مِنهُ أصْلًا، وأمّا مِن جِهَةِ التَّرْكِيبِ فَلِكَوْنِ كُلِّ [كَلِمَةٍ] مِنها أحَقَّ في مَواضِعِها بِحَيْثُ أنَّهُ لَوْ قُدِّمَ شَيْءٌ مِنها أوْ أُخِّرَ لاخْتَلَّ المَعْنى المُرادُ في ذَلِكَ السِّياقِ بِحَسَبِ ذَلِكَ المَقامِ، وأمّا مِن جِهَةِ التَّرْتِيبِ في الجُمَلِ والآياتِ والقِصَصِ في المَبادِئِ والغاياتِ فَلِكَوْنِهِ مِثْلَ تَرْكِيبِ الكَلِماتِ، كُلُّ جُمْلَةٍ مُنْتَظَمَةٌ بِما قَبْلَها انْتِظامَ [الدُّرِّ] اليَتِيمِ في العِقْدِ المُحْكَمِ النَّظِيمِ، لِأنَّها إمّا أنْ تَكُونَ عِلَّةً لِما تَلَتْهُ أوْ دَلِيلًا أوْ مُتَمِّمَةً بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ الفائِقَةِ عَلى وجْهٍ مُمْتِعِ الجَنابِ جَلِيلِ الحِجابِ لِتَكُونَ أحْلى في فَمِهِ، وأجْلى بَعْدَ ذَوْقِهِ في نَظْمِهِ وسائِرِ عِلْمِهِ، فَكانَ ثُبُوتُ جَمِيعِ ما أخْبَرَ بِهِ عَلى وجْهٍ لا مُغْتَمَرَ فِيهِ ولا وقْفَةَ في اعْتِقادِ حُسْنِهِ، فَثَبَتَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أرْسَلَ الآتِيَ بِهَذا القُرْآنِ ﷺ بِالهُدى وبِالحَقِّ، لا أنَّهُ آتاهُ كُلَّ ما يَنْبَغِي لَهُ، فَآتاهُ الحِكْمَةَ وهي البَراهِينُ القاطِعَةُ واسْتِعْمالَها عَلى وُجُوهِها، والمَوْعِظَةَ الحَسَنَةَ، وهي الأُمُورُ المُرَقِّقَةُ لِلْقُلُوبِ المُنَوِّرَةُ لِلصُّدُورِ، والمُجادَلَةَ الَّتِي هي عَلى أحْسَنِ الطُّرُقِ في نَظْمٍ مُعْجِزٍ مُوجِبٍ لِلْإيمانِ، فَكانَ مَن سَمِعَهُ (p-٢٣٤)ولَمْ يُؤْمِن لَمْ يَبْقَ لَهُ مِنَ المُمْحِلاتِ إلّا أنْ يَقُولَ: هَذا البَيانُ لَيْسَ لِظُهُورِ المُدَّعى وثُبُوتِهِ بَلْ لِقُوَّةِ عارِضَةِ المُدَّعِي وقُوَّتِهِ عَلى تَرْكِيبِ الأدِلَّةِ وصَوْغِ الكَلامِ وتَصْرِيفِ وُجُوهِ المَقالِ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ يَغْلِبُ لِقُوَّةِ جِدالِهِ لا لِظُهُورِ مَقالِهِ، كَما أنَّهُ رُبَّما يَقُولُ أحَدُ المُتَناظِرَيْنِ عِنْدَ انْقِطاعِهِ لِخَصْمِهِ: أنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الحَقَّ مَعِي لَكِنَّكَ تَسْتَضْعِفُنِي ولا تُنْصِفُنِي، فَحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِلْخَصْمِ جَوابٌ إلّا الإقْسامَ بِالأيْمانِ الَّتِي لا مَخْرَجَ عَنْها أنَّهُ غَيْرُ مُكابِرٍ وأنَّهُ مُنْصِفٌ، وإنَّما يَفْزَعُ إلى الأيْمانِ لِأنَّهُ لَوْ أتى بِدَلِيلٍ آخَرَ لَكانَ مُعَرَّضًا لِمِثْلِ هَذا، فَيَقُولُ: وهَذا غَلَبْتَنِي فِيهِ لِقُوَّةِ جِدالِكَ وقُدْرَتِكَ عَلى سَوْقِ الأدِلَّةِ بِبَلاغَةِ مَقالِكَ، فَلِذَلِكَ كانُوا إذا أفْحَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ قالُوا: إنَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْنا فِيما نَعْلَمُ خِلافَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا الإقْسامُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ أنْواعًا مِنَ الأقْسامِ بَعْدَ الدَّلائِلِ العِظامِ، ولِهَذا كَثُرَتِ [الآياتُ] في أواخِرِ القُرْآنِ، وفي السَّبْعِ الأخِيرَةِ خاصَّةً أكْثَرَ، فَلِذَلِكَ سَبَّبَ عَنْ هَذِهِ الأدِلَّةِ الرّائِعَةِ والبَراهِينِ القاطِعَةِ قَوْلَهُ: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ بِإثْباتِ ”لا“ النّافِيَةِ، إمّا عَلى أنْ يَكُونَ مُؤَكِّدَةً بِأنْ يَنْفِيَ ضِدَّ ما أثْبَتَهُ القَسَمُ، فَيَجْمَعَ الكَلامُ بَيْنَ إثْباتِ المَعْنى المُخْبَرِ بِهِ ونَفْيِ ضِدِّهِ، وإمّا عَلى تَقْدِيرِ: أنَّ هَذا المَقامَ يَسْتَحِقُّ لِعَظَمَتِهِ وإنْكارِهِمْ لَهُ أنْ (p-٢٣٥)يُقْسَمُ عَلَيْهِ بِأعْظَمَ مِن هَذا عَلى ما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ لِمَن لَهُ عِلْمٌ - واللَّهُ أعْلَمُ. ولَمّا كانَ [الكَلامُ] السّابِقُ في الماءِ الَّذِي جَعَلَهُ سُبْحانَهُ مَجْمَعًا لِلنِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ الظّاهِرَةِ وقَدْ رَتَّبَ سُبْحانَهُ لِإنْزالِهِ الأنْواءَ عَلى مِنهاجٍ دَبَّرَهُ وقانُونٍ أحْكَمَهُ، وجَعَلَ إنْزالَ القُرْآنِ نُجُومًا مُفَرَّقَةً وبَوارِقَ مُتَلالِئَةً مُتَألِّقَةً قالَ: ﴿بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ أيْ: بِمَساقِطِ الطَّوائِفِ القُرْآنِيَّةِ المُنِيرَةِ النّافِعَةِ المُحْيِيَةِ لِلْقُلُوبِ، وبِهُبُوطِها الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ ما يَنْبَنِي مِنَ الآثارِ الجَلِيلَةِ وأزْمانِ ذَلِكَ وأماكِنِهِ وأحْوالِهِ، وبِمَساقِطِ الكَواكِبِ وأنْوائِها وأماكِنِ ذَلِكَ وأزْمانِهِ في تَدْبِيرِهِ عَلى ما تَرَوْنَ مِنَ الصُّنْعِ المُحْكَمِ والفِعْلِ المُتْقَنِ المُقَوَّمِ، الدّالِّ بِغُرُوبِ الكَواكِبِ عَلى القُدْرَةِ عَلى الطَّيِّ بَعْدَ النَّشْرِ والإعْدامِ بَعْدَ الإيجادِ، وبِطُلُوعِها الَّذِي يُشاهِدُ أنَّها مُلْجَأةٌ إلَيْهِ إلْجاءَ السّاقِطِ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، لِقُدْرَتِهِ عَلى الإيجادِ بَعْدَ الإعْدامِ، وبِآثارِ الأنْواءِ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ بِأوْضَحَ مِنهُ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلالاتِ الَّتِي يَضِيقُ عَنْها العِباراتُ- ويَقْصُرُ دُونَ عُلْياها مَدِيدُ الإشاراتِ، ولِمِثْلِ هَذِهِ المَعانِي الجَلِيلَةِ والخُطُوبِ العَظِيمَةِ جَعَلَ في الكَلامِ اعْتِراضًا بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ، وفي الِاعْتِراضِ اعْتِراضًا بَيْنَ المَوْصُوفِ وصِفَتِهِ تَأْكِيدًا لِلْكَلامِ، وهَزًّا لِنافِذِ الأفْهامِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الأمْرَ عَظِيمٌ والخَطْبَ فادِحٌ جَسِيمٌ، فَقالَ مُوَضِّحًا لَهُ بِالتَّأْكِيدِ رَحْمَةً لِلْعَبِيدِ بِالإشارَةِ إلى أنَّهم جَرَوْا عَلى غَيْرِ ما يَعْلَمُونَ مِن عَظَمَتِنا فَعُدُّوا غَيْرَ عالِمِينَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب