الباحث القرآني
ولَمّا وصَفَ حالَ المُتَّقِينَ مِن أعْداءِ المُكَذِّبِينَ وبَدَأ بِهِمْ لِشَرَفِهِمْ، أتْبَعَهم مَن هو أدْنى مِنهم حالًا لِتَكُونَ النِّعْمَةُ تامَّةً فَقالَ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَعْنِي أقَرُّوا بِالإيمانِ ولَمْ يُبَدِّلُوا ولا بالَغُوا في الأعْمالِ الصّالِحَةِ. ولَمّا كانَ مِن هَؤُلاءِ مَن لا يَتَّبِعُهُ ذُرِّيَّتُهُ بِسَبَبِ إيمانِهِ لِأنَّهُ يَرْتَدُّ عَنْهُ، عَطَفَ عَلى فِعْلِهِمْ تَمْيِيزًا لَهم واحْتِرازًا عَمَّنْ لَمْ يُثْبِتْ قَوْلَهُ: ﴿واتَّبَعَتْهُمْ﴾ أيْ بِما لَنا مِنَ الفَضْلِ النّاشِئِ عَمّا لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ الصِّغارُ والكِبارُ وإنْ كَثُرُوا، والقَرارُ لِأعْيُنِهِمْ بِالكِبارِ بِإيمانِهِمْ والصِّغارِ بِإيمانِ آبائِهِمْ ﴿بِإيمانٍ﴾ أيْ بِسَبَبِ إيمانٍ حاصِلٍ مِنهُمْ، ولَوْ كانَ في أدْنى دَرَجاتِ الإيمانِ، ولَكِنَّهم ثَبَتُوا عَلَيْهِ إلى أنْ ماتُوا، وذَلِكَ هو شَرْطُ إتْباعِهِمُ الذُّرِّيّاتِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ وهو أقْرَبُ: بِسَبَبِ إيمانِ الذُّرِّيَّةِ حَقِيقَةً إنْ كانُوا كِبارًا، وحُكْمًا إنْ كانُوا صِغارًا، ثُمَّ أخْبَرَ عَنِ المَوْصُولِ بِقَوْلِهِ: ﴿ألْحَقْنا بِهِمْ﴾ أيْ بِفَضْلِنا لِأجْلِ عَمَلِ آبائِهِمْ ﴿ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ وإنْ لَمْ يَكُنْ لِلذُّرِّيَّةِ أعْمالٌ، لِأنَّهُ قِيلَ في المَعْنى: ”ولِأجْلِ عَيْنٍ ألْفُ عَيْنٍ تُكْرَمُ“ (p-١٥)ويَلْحَقُ بِالذُّرِّيَّةِ مِنَ النَّسَبِ الذُّرِّيَّةُ بِالسَّبَبِ وهو المَحَبَّةُ، فَإنْ كانَ مَعَها آخِذٌ لِعِلْمٍ أوْ عَمَلٍ كانَتْ أجْدَرَ، فَتَكُونُ ذُرِّيَّةُ الإفادَةِ كَذُرِّيَّةِ الوِلادَةِ، وذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «المَرْءُ مَعَ مَن أحَبَّ» في جَوابِ مَن سَألَ عَمَّنْ يُحِبُّ القَوْمَ ولَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ.
ولَمّا كانَ رُبَّما خِيفَ أنْ يُنْقَصَ الآباءُ بِسَبَبِ إلْحاقِ ذُرِّيّاتِهِمْ بِهِمْ شَيْئًا مِن دَرَجاتِهِمْ، قالَ: ﴿وما ألَتْناهُمْ﴾ أيْ نَقَصْنا الآباءَ وحَبَسْنا عَنْهم ﴿مِن عَمَلِهِمْ﴾ وأكَّدَ النَّفْيَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ بِسَبَبِ هَذا الإلْحاقِ وكانَ مِن فَوْقِ رُتْبَتِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنِينَ والمُتَّقِينَ وغَيْرِهِمْ أوْلى مِنهُمْ، وإنَّما فَصَلَهم مِنهم لِأنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لا يُوقِنُونَ قَبْلَ دُخُولِ الجَنَّةِ العَذابَ، قالَ جامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ، أوْ يُقالُ - ولَعَلَّهُ أقْرَبُ - أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ اتِّباعَ الأدْنى لِلْأعْلى في الخَيْرِ فَضْلًا، أشْفَقَتِ النَّفْسُ مِن أنْ يَكُونَ إتْباعًا في الشَّرِّ فَأجابَ تَعالى بِأنَّهُ لا يَفْعَلُ بِقَوْلِهِ: ﴿كُلُّ امْرِئٍ﴾ أيْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والمُتَّقِينَ وغَيْرِهِمْ ﴿بِما كَسَبَ﴾ أيْ مِن ولَدٍ وغَيْرِهِ ﴿رَهِينٌ﴾ أيْ مُسابِقٌ ومُخاطِرٌ ومَطْلُوبٌ وآخِذٌ شَيْئًا بَدَلَ كَسْبِهِ ومُوَفًّى عَلى قَدْرِ ما يَسْتَحِقُّهُ ومُحْتَبَسٌ بِهِ إنْ كانَ عاصِيًا، فَمَن كانَ صالِحًا كانَ آخِذًا بِسَبَبِ صَلاحِ ولَدِهِ لِأنَّهُ كَسْبُهُ، ولا يُؤْخَذُ بِهِ ذُلًّا وهو حَسَنٌ في نَفْسِهِ لِأجْلِ الحُكْمِ بِإيمانِهِ سَواءٌ كانَ حَقِيقَةً أوْ حُكْمًا وكُلُّ حَسَنٍ مُرْتَفِعٌ، فَلِذَلِكَ يَلْتَحِقُ بِأبِيهِ، وأمّا الإساءَةُ فَقاصِرَةٌ عَلى صاحِبِها يُؤْخَذُ بِها ويُرْهَنُ بِذَنْبِهِ ولا يُؤْخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، والحاصِلُ أنَّ المَعالِيَ الَّتِي هي (p-١٦)كالحَياةِ تَفِيضُ مِن صاحِبِها عَلى غَيْرِهِ فَتُحْيِيهِ، والمَساوِئَ الَّتِي هي كالمَوْتِ لا يَتَعَدّى صاحِبَها، قالَ الرّازِيُّ في اللَّوامِعِ: اعْلَمْ أنَّ الذَّواتَ بَقاؤُها ودَوامُها بِبَقاءِ صُوَرِها، فَحَيْثُ ما كانَتِ الصُّورَةُ المُقَوِّمَةُ لَها أدْوَمَ كانَتِ الذَّواتُ بِها أقْوَمَ، وأنَّ النُّفُوسَ الإنْسانِيَّةَ ذَواتٌ وصُوَرَها عُلُومُها وأخْلاقُها، فَحَيْثُ ما كانَتِ العُلُومُ حَقَّ اليَقِينِ ثُمَّ عَيْنَ اليَقِينِ، والأخْلاقُ مُقَوَّمَةً عَلى نَهْجِ الشَّرْعِ المُبِينِ، كانَتِ النُّفُوسُ دائِمَةً بِدَوامِها غَيْرَ مُسْتَحِيلَةٍ، إذْ لا تَتَطَرَّقُ الِاسْتِحالَةُ إلى اليَقِينِ والعِلْمِ الحَقِّ، وغَيْرَ كائِنَةٍ ولا فاسِدَةٍ إذْ لَيْسَ عَيْنُ اليَقِينِ ولا العُلُومُ الحَقِيقِيَّةُ مِن عالَمِ الكَوْنِ والفَسادِ، وإنْ لَمْ تَبْلُغِ النَّفْسُ إلى كَمالِ اليَقِينِ فَتَعَلَّقَتْ بِدَلِيلِ صاحِبِهِ كَما انْخَرَطَتْ في سِلْكِها حَتّى يُخْرَطَ الإنْسانُ في سِلْكِ مَحَبَّتِهِ، لَوْ أحَبَّ أحَدُكم حَجَرًا لَحُشِرَ مَعَهُ، فَإنَّ الدِّينَ هو الحُبُّ في اللَّهِ والبُغْضُ في اللَّهِ، ولِهَذا اكْتَفى الشَّرْعُ مِنَ المُكَلَّفِينَ بِإسْلامٍ وتَسْلِيمٍ وتَفْوِيضٍ وتَحْكِيمٍ دُونَ الوُقُوفِ عَلى المَسائِلِ العَوِيصَةِ بِالبَراهِينِ الواضِحَةِ الصَّحِيحَةِ، وما لَمْ يَبْلُغِ الوَلَدُ حَدَّ التَّكْلِيفِ واخْتُرِمَ أُلْحِقُوا بِآبائِهِمْ وحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ عَقائِدِهِمْ وآرائِهِمْ حَتّى يَكُونَ حُكْمُ آبائِهِمْ جارِيًا عَلَيْهِمْ وحُكْمُ القِيامَةِ نافِذًا فِيهِمْ، وأمّا إذا كانَتِ الصُّورَةُ القائِمَةُ بِالذَّواتِ مُسْتَحِيلَةً بِأنْ كانَتْ جَهْلًا وباطِلًا يَنْقُصُ أوَّلُهُ آخِرَهُ وآخِرُهُ أوَّلَهُ، كانَتْ ذاتُ النَّفْسِ لا تَنْعَدِمُ ولا تَفْنى بَلْ تَبْقى عَلى حالٍ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى، فَإنَّها لَوْ فَنِيَتْ لاسْتَراحَتْ ولَوْ بَقِيَتْ لاسْتَطابَتْ، فَهي عَلى اسْتِحالَةٍ بَيْنَ المَوْتِ والحَياةِ، وهَذِهِ الِاسْتِحالَةُ (p-١٧)لا تَكُونُ إلّا في أجْسادٍ وأبْدانٍ ﴿كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ [النساء: ٥٦] انْتَهى.
وهُوَ كَما تَرى في غايَةِ النَّفاسَةِ، ويُؤَيِّدُهُ «يُحْشَرُ المَرْءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أحَدُكم مَن يُخالِلْ» ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِما قَبْلَها مِنَ النَّفْيِ، أيْ ما نَقَصْناهم لِأنَّهُ قَدْ سَبَقَ في حُكْمِنا بِأنْ يَكُونَ ”كُلُّ امْرِئٍ“ قَدَّرْنا أنْ يَرْتَهِنَ بِما قَدْ يَنْقُصُهُ ﴿بِما كَسَبَ﴾ أيْ لا يَضُرُّ ما كَسَبَ ما كَسَبَهُ غَيْرُهُ ﴿رَهِينٌ﴾ أيْ مُعَوَّقٌ عَنِ النَّعِيمِ حَتّى يَأْتِيَهُ بِما يُطْلِقُ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّیَّتُهُم بِإِیمَـٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَمَاۤ أَلَتۡنَـٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَیۡءࣲۚ كُلُّ ٱمۡرِىِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











