الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَ القِيامُ إلى الصَّلاةِ؛ وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الأزْواجِ المَأْمُورِ فِيهِنَّ بِالعَدْلِ؛ في أوَّلِ ”النِّساءِ“؛ وأثْنائِها؛ وكانَ في الأزْواجِ المَذْكُوراتِ هُنا الكافِراتُ؛ ناسَبَ تَعْقِيبَ ذَلِكَ؛ بَعْدَ الأمْرِ بِالتَّقْوى؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أيْ أقَرُّوا بِالإيمانِ؛ ولَمّا كانَ العَدْلُ في غايَةِ الصُّعُوبَةِ عَلى الإنْسانِ؛ فَكانَ لِذَلِكَ يَحْتاجُ المُتَخَلِّقُ بِهِ إلى تَدْرِيبٍ كَبِيرٍ؛ لِيَصِيرَ صِفَةً راسِخَةً؛ عَبَّرَ بِالكَوْنِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿كُونُوا قَوّامِينَ﴾؛ أيْ: مُجْتَهِدِينَ في القِيامِ عَلى النِّساءِ؛ اللّاتِي أخَذْتُمُوهُنَّ بِعَهْدِ اللَّهِ؛ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ؛ وعَلى غَيْرِهِنَّ؛ في الصَّلاةِ وغَيْرِها؛ مِن جَمِيعِ الطّاعاتِ الَّتِي عاهَدْتُمْ عَلى الوَفاءِ بِها. ولَمّا كانَ مَبْنى السُّورَةِ عَلى الوَفاءِ بِالعَهْدِ الوَثِيقِ؛ وكانَ الوَفاءُ بِذَلِكَ إنَّما يَخِفُّ عَلى النُّفُوسِ؛ ويَصِحُّ النَّشاطُ فِيهِ؛ ويَعْظُمُ العَزْمُ عَلَيْهِ؛ بِالتَّذْكِيرِ بِجَلالَةِ مُوَثِّقِهِ؛ وعَدَمِ انْتِهاكِ حُرْمَتِهِ؛ لِأنَّ المَعاهَدَ إنَّما يَكُونُ بِاسْمِهِ؛ ولِحِفْظِ حَدِّهِ؛ ورَسْمِهِ؛ قَدَّمَ قَوْلَهُ: ﴿لِلَّهِ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ - بِخِلافِ ما مَضى في ”النِّساءِ“ - ولَمّا كانَ مِن جُمْلَةِ المُعاقَدِ عَلَيْهِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ - لَيْلَةَ تَواثَقُوا عَلى الإسْلامِ - أنْ يَقُولُوا الحَقَّ حَيْثُما كانُوا؛ لا يَخافُونَ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ؛ (p-٤١)قالَ: ﴿شُهَداءَ﴾؛ أيْ: مُتَيَقِّظِينَ؛ مُحَضِّرِينَ أفْهامَكم غايَةَ الإحْضارِ؛ بِحَيْثُ لا يُسَدُّ عَنْها شَيْءٌ مِمّا تُرِيدُونَ الشَّهادَةَ بِهِ؛ ﴿بِالقِسْطِ﴾؛ أيْ: العَدْلِ؛ وقالَ الإمامُ أبُو حَيّانَ في نَهْرِهِ: إنَّ الَّتِي جاءَتْ في سُورَةِ ”النِّساءِ“؛ جاءَتْ في مَعْرِضِ الِاعْتِرافِ عَلى نَفْسِهِ؛ وعَلى الوالِدَيْنِ؛ والأقْرَبِينَ؛ فَبَدَأ فِيها بِالقِسْطِ؛ الَّذِي هو العَدْلُ؛ والسَّواءُ مِن غَيْرِ مُحاباةِ نَفْسٍ؛ ولا والِدٍ؛ ولا قَرابَةٍ؛ وهُنا جاءَتْ في مَعْرِضِ تَرْكِ العَداواتِ والإحَنِ؛ فَبُدِئَ فِيها بِالقِيامِ لِلَّهِ؛ إذْ كانَ الأمْرُ بِالقِيامِ لِلَّهِ أوَّلًا أرَدَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ ثُمَّ أرْدَفَ بِالشَّهادَةِ بِالعَدْلِ؛ فالَّتِي في مَعْرِضِ المَحَبَّةِ؛ والمُحاباةِ؛ بُدِئَ فِيها بِما هو آكَدُ؛ وهو القِسْطُ؛ والَّتِي في مَعْرِضِ العَداوَةِ والشَّنَآنِ؛ بُدِئَ فِيها بِالقِيامِ لِلَّهِ؛ فَناسَبَ كُلُّ مَعْرِضٍ ما جِيءَ بِهِ إلَيْهِ؛ وأيْضًا فَتَقَدَّمَ هُناكَ حَدِيثُ النُّشُوزِ؛ والإعْراضِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٢٩]؛ وقَوْلُهُ: ”فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَصّالَحا“؛ فَناسَبَ ذِكْرَ تَقْدِيمِ القِسْطِ؛ وهُنا تَأخَّرَ ذِكْرُ العَداوَةِ؛ فَناسَبَ أنْ يُجاوِرَها ذِكْرُ القِسْطِ؛ انْتَهى. ولَمّا كانَ أمَرَ بِهَذا الخَبَرِ؛ نَهى عَمّا يَحْجُبُ عَنْهُ؛ فَقالَ: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ (p-٤٢)؛ أيْ: يَحْمِلَنَّكُمْ؛ ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾؛ أيْ: شِدَّةُ عَداوَةِ مَن لَهم قُوَّةٌ عَلى القِيامِ في الأُمُورِ مِنَ المُشْرِكِينَ؛ بِحَيْثُ يُخْشى مِن إهْمالِهِمُ ازْدِيادُ قُوَّتِهِمْ؛ ﴿عَلى ألا تَعْدِلُوا﴾؛ أيْ: أنْ تَتْرُكُوا قَصْدَ العَدْلِ؛ وهو يُمْكِنُ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ بُغْضُ أهْلِ الزَّوْجَةِ الكافِرَةِ؛ أوِ ازْدِراؤُها في شَيْءٍ مِن حُقُوقِها؛ لِأجْلِ خِسَّةِ دِينِها؛ فَأُمِرُوا بِالعَدْلِ؛ حَتّى بَيْنَ هَذِهِ المَرْأةِ الكافِرَةِ؛ وضَرّاتِها المُسْلِماتِ؛ وإذا كانَ هَذا شَأْنُ الأمْرِ بِهِ في الكافِرِ؛ فَما الظَّنُّ بِهِ في المُسْلِمِ؟! ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ - آمِرًا بَعْدَ النَّهْيِ؛ تَأْكِيدًا لِأمْرِ العَدْلِ -: ﴿اعْدِلُوا﴾؛ أيْ: تَحَرَّوُا العَدْلَ؛ واقْصِدُوهُ في كُلِّ شَيْءٍ؛ حَتّى في هَذِهِ الزَّوْجاتِ؛ وفِيمَن يُجاوِزُ فِيكُمُ الحُدُودَ؛ فَكُلَّما عَصَوُا اللَّهَ فِيكُمْ؛ أطِيعُوهُ فِيهِمْ؛ فَإنَّ الَّذِي مَنَعَكم مِنَ التَّجاوُزِ - خَوْفَهُ - يُرِيكم مِنَ النُّصْرَةِ؛ وصَلاحِ الحالِ ما يَسُرُّكم. ولَمّا كانَ تَرْكُ قَصْدِ العَدْلِ قَدْ يَقَعُ لِصاحِبِهِ العَدْلُ اتِّفاقًا؛ فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنَ التَّقْوى؛ قالَ - مُسْتَأْنِفًا ومُعَلِّلًا -: ﴿هُوَ﴾؛ أيْ: قَصْدُ العَدْلِ؛ ﴿أقْرَبُ﴾؛ أيْ: مِن تَرْكِ قَصْدِهِ؛ ﴿لِلتَّقْوى﴾؛ والإحْسانُ - الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ الصُّلْحُ - أقْرَبُ مِنَ العَدْلِ إلَيْها؛ وتَعْدِيَةُ ”أقْرَبُ“؛ بِاللّامِ؛ دُونَ ”إلى“؛ المُقْتَضِيَةِ لِنَوْعِ بُعْدٍ؛ زِيادَةٌ في التَّرْغِيبِ - كَما مَرَّ في ”البَقَرَةِ“؛ ولَمّا كانَ الشَّيْءُ لا يَكُونُ إلّا بِمُقَدِّماتِهِ؛ وكانَ قَدْ عُلِمَ مِن هَذا أنَّ العَدْلَ مُقَدِّمَةُ التَّقْوى؛ قالَ - عاطِفًا (p-٤٣)عَلى النَّهْيِ؛ أوْ عَلى نَحْوِ: ”فاعْدِلُوا“ -: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أيْ: اجْعَلُوا بَيْنَكم وبَيْنَ غَضَبِ المَلِكِ الأعْظَمِ؛ وِقايَةً بِالإحْسانِ؛ فَضْلًا عَنِ العَدْلِ؛ ويُؤَيِّدُ كَوْنَ الآيَةِ ناظِرَةً إلى النِّكاحِ؛ مَعَ ما ذَكَرَ خِتامُ آيَةِ الشِّقاقِ؛ الَّتِي في أوَّلِ ”النِّساءِ“؛ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء: ٣٥]؛ وخِتامُ قَوْلِهِ (تَعالى) في أواخِرِها: ﴿وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزًا أوْ إعْراضًا﴾ [النساء: ١٢٨]؛ بِقَوْلِهِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: ١٢٨]؛ وخِتامُ هَذِهِ؛ بِقَوْلِهِ - مُعَلِّلًا لِما قَبْلَهُ -: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المُحِيطَ بِصِفاتِ الكَمالِ؛ ﴿خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾؛ لِأنَّ ما بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ رُبَّما دَقَّ عِلْمُهُ عَنْ إدْراكِ غَيْرِ العَلِيمِ الخَبِيرِ؛ وقالُ أبُو حَيّانَ: لَمّا كانَ الشَّنَآنُ مَحَلُّهُ القَلْبُ؛ وهو الحامِلُ عَلى تَرْكِ العَدْلِ؛ أمَرَ بِالتَّقْوى؛ وأتى بِصِفَةِ ”خَبِيرٌ“؛ ومَعْناها ”عَلِيمٌ“؛ ولَكِنَّها مِمّا تَخْتَصُّ بِما لَطَفَ إدْراكُهُ؛ انْتَهى. و”شُهَداءَ“؛ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِن ”الشَّهادَةُ“؛ الَّتِي هي حُضُورُ القَلْبِ - كَما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧] - وأنْ يَكُونَ مِن ”الشَّهادَةُ“؛ المُتَعارَفَةِ؛ ويُوَضِّحُ المُناسَبَةَ فِيها؛ مَعَ تَأْيِيدِ إرادَتِها؛ كَوْنُها بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [المائدة: ٧]؛ ومَعَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ومَن يَكْتُمْها (p-٤٤)فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ وخِتامُ آيَةِ ”النِّساءِ“؛ الَّتِي في الشَّهادَةِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: ١٣٥]؛ كَما خُتِمَتْ هَذِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب