الباحث القرآني

ولَمّا كانَ المَعْنى: ما فَعَلُوا ذَلِكَ؛ فَألْزَمْناهُمُ الخِزْيَ في الدُّنْيا؛ والعَذابَ الدّائِمَ في الآخِرَةِ؛ وكانَ هَذا إجْمالًا لِحالَتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ والأُخْرَوِيَّةِ؛ وكانَ مَحَطُّ نَظَرِهِمُ الأمْرَ الدُّنْيَوِيَّ؛ رَجَعَ - بَعْدَ إرْشادِهِمْ إلى إصْلاحِ الحالَةِ الأُخْرَوِيَّةِ؛ لِأنَّها أهَمُّ في نَفْسِها - إلى سَبَبِ قَوْلِهِمْ تِلْكَ الكَلِمَةَ الشَّنْعاءَ؛ والدّاهِيَةَ القَبِيحَةَ الصَّلْعاءَ؛ وهو تَقْتِيرُ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ؛ وبَيَّنَ أنَّ السَّبَبَ إنَّما هو مِن أنْفُسِهِمْ؛ فَقالَ: ﴿ولَوْ أنَّهم أقامُوا التَّوْراةَ﴾؛ أيْ: قَبْلَ إنْزالِ الإنْجِيلِ؛ بِالعَمَلِ بِجَمِيعِ ما دَعَتْ إلَيْهِ؛ مِن أصْلٍ وفَرْعٍ؛ وثَباتٍ عَلَيْها؛ وانْتِقالٍ عَنْها؛ ﴿والإنْجِيلَ﴾؛ أيْ: بَعْدَ إنْزالِهِ كَذَلِكَ؛ وفي إقامَتِهِ إقامَةُ التَّوْراةِ؛ الدّاعِيَةِ إلَيْهِ؛ ﴿وما أُنْـزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ﴾؛ أيْ: المُحْسِنِ إلَيْهِمْ؛ مِن أسْفارِ الأنْبِياءِ المُبَشِّرَةِ بِعِيسى؛ ومُحَمَّدٍ - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ ومِنَ القُرْآنِ بَعْدَ إنْزالِهِ؛ وفي إقامَتِهِ إقامَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مُبَشِّرٌ بِهِ؛ وداعٍ إلَيْهِ؛ ﴿لأكَلُوا﴾؛ أيْ: لِتَيَسَّرَ لَهُمُ الرِّزْقُ؛ وعَبَّرَ بِـ ”مِن“؛ لِأنَّ المُرادَ بَيانُ جِهَةِ المَأْكُولِ؛ (p-٢٢٦)لا الأكْلُ؛ ﴿مِن فَوْقِهِمْ﴾؛ ولَمّا كانَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنْ عِظَمِ التَّوْسِعَةِ؛ قالَ - مُوَضِّحًا لَهُ؛ مُعَبِّرًا بِالأحْسَنِ؛ لِيُفْهَمَ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ الأوْلى -: ﴿ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾؛ أيْ: تَيَسُّرًا واسِعًا جِدًّا؛ مُتَّصِلًا؛ لا يُحْصَرُ؛ أوْ يَكُونُ كِنايَةً عَنْ بَرَكاتِ السَّماءِ والأرْضِ؛ فَبَيَّنَ ذَلِكَ أنَّهُ ما ضَرَبَهم بِالذُّلِّ والمَسْكَنَةِ إلّا تَصْدِيقًا لِما تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِهِ في التَّوْراةِ؛ قالَ مُتَرْجِمُها في السِّفْرِ الخامِسِ ”الدُّعاءُ والبَرَكاتُ“: (وإنْ أنْتُمْ سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ رَبِّكُمْ؛ وحَفِظْتُمْ؛ وعَمِلْتُمْ بِجَمِيعِ الوَصايا الَّتِي آمُرُكم بِها اليَوْمَ؛ يُصَيِّرُكُمُ الرَّبُّ فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ؛ فَتَصِيرُوا إلى هَذا الدُّعاءِ؛ يُبارِكُ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنكم في القَرْيَةِ؛ والحَقْلِ؛ يُبارِكُ في أوْلادِكُمْ؛ وأرْضِكُمْ؛ يُبارِكُ لَكم في بَهائِمِكُمْ؛ وما يَضَعُ في أقَطاعِ بَقَرِكُمْ؛ وأحْزابِ غَنَمِكُمْ؛ ويُبارِكُ فِيكم إذا دَخَلْتُمْ؛ ويُبارِكُ فِيكم إذا خَرَجْتُمْ؛ ويَدْفَعُ إلَيْكُمُ اللَّهُ أعْداءَكم أُسارى؛ يَخْرُجُونَ إلَيْكم في طَرِيقٍ واحِدٍ؛ ويَهْرُبُونَ مِنكم في سَبْعَةِ طُرُقٍ؛ يَأْمُرُ اللَّهُ بِبَرَكاتِهِ في أهْرائِكُمْ؛ وفي جَمِيعِ الأشْياءِ الَّتِي تَمُدُّونَ أيْدِيَكم إلَيْها؛ ويَنْظُرُ إلَيْكم جَمِيعُ شُعُوبِ الأرْضِ؛ ويَعْلَمُونَ أنَّ اسْمَ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ؛ وقَدْ وُسِمْتُمْ بِهِ؛ فَيَخافُونَكُمْ؛ ويَزِيدُكُمُ الرَّبُّ خَيْرًا؛ ويُبارِكُ في ثِمارِ أرْضِكُمْ؛ يَفْتَحُ اللَّهُ رَبُّكم أهْراءَ السَّماءِ؛ ويَهْبِطُ المَطَرُ عَلى أهْلِهِ في زَمانِهِ؛ وتَتَسَلَّطُونَ عَلى شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ؛ ولا يَتَسَلَّطُ عَلَيْكم أحَدٌ؛ ويُصَيِّرُكُمُ الرَّبُّ رَأْسًا؛ ولا يُصَيِّرُكم ذَنَبًا؛ وتَصِيرُونَ فَوْقَ؛ ولا تَصِيرُونَ (p-٢٢٧)أسْفَلَ؛ إذا عَمِلْتُمْ بِجَمِيعِ وصايا اللَّهِ رَبِّكُمْ؛ ولَمْ تَرُوغُوا عَنْها يُمْنَةً ولا يُسْرَةً؛ ولا تَتَّبِعُوا الشُّعُوبَ؛ ولا تَعْبُدُوا آلِهَتَها؛ وإنْ أنْتُمْ لَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ رَبِّكُمْ؛ ولَمْ تَحْفَظُوا؛ ولَمْ تَعْمَلُوا بِجَمِيعِ سُنَنِهِ؛ ووَصاياهُ الَّتِي آمُرُكم بِها اليَوْمَ؛ يُنْزِلُ بِكم هَذا اللَّعْنَ الَّذِي أقُصُّ عَلَيْكم كُلَّهُ؛ ويُدْرِكُكُمُ العِقابُ؛ وتَكُونُونَ مَلْعُونِينَ في القَرْيَةِ)؛ إلى آخِرِ اللَّعْنِ الَّذِي تَقَدَّمَ قَرِيبًا؛ وقالَ في الثّالِثِ: (إذا سَلَكْتُمْ بِسُنَّتِي؛ وحَفِظْتُمْ وصايايَ؛ وعَمِلْتُمْ بِها؛ أُدِيمُ أمَطارَكم في وقْتِها؛ وتَبْذُلُ الأرْضُ لَكم غَلّاتِها؛ وتَبْذُلُ لَكُمُ الشَّجَرُ ثِمارَها؛ ويُدْرِكُ الدُّرّاسُ القِطافَ؛ والقِطافُ يُدْرِكُ الزَّرْعَ؛ وتَأْكُلُونَ خُبْزًا؛ وتَشْبَعُونَ؛ وتَسْكُنُونَ أرْضَكم مُطَمْئِنِينَ؛ ولا يَكُونُ مَن يُخْرِجُكُمْ؛ وأصْرِفُ عَنْ أرْضِكُمُ السِّباعَ الضّارِيَةَ؛ وتَطْرُدُونَ أعْداءَكُمُ؛ الخَمْسَةُ مِنكم يَهْزِمُونَ مِائَةً؛ والمِائَةُ مِنكم يَهْزِمُونَ عَشْرَةَ آلافٍ؛ وتَقَعُ أعْداؤُكم قَتْلى بَيْنَ أيْدِيكم في الحَرْبِ؛ وأُقْبِلُ إلَيْكُمْ؛ وأُكَثِّرُكُمْ؛ وأُدِيمُ مَقْدِسِي بَيْنَكُمْ؛ ولا أُدْبِرُ عَنْكُمْ؛ بَلْ أكُونُ مَعَكُمْ؛ وأسِيرُ بَيْنَكُمْ؛ وإنْ لَمْ تُطِيعُونِي؛ وتَسْمَعُوا قَوْلِي؛ ولَمْ تَعْمَلُوا بِهَذِهِ الوَصايا؛ وأبْطَلْتُمْ عُهُودِي؛ أنا أيْضًا أصْنَعُ بِكم مِثْلَ صَنِيعِكُمْ؛ وآمُرُ بِكُمُ البَلايا والبَرَصَ والبَهَقَ المُقَشِّرَ الَّذِي لا يُبْرَأُ؛ والسُّلَّ الَّذِي يُطْفِئُ البَصَرَ؛ ويُهْلِكُ النَّفْسَ؛ ويَكُونُ تَعَبُكم في الزَّرْعِ باطِلًا؛ وذَلِكَ لِأنَّ أعْداءَكم يَأْكُلُونَ ما تَزْرَعُونَ؛ وأُنْزِلُ بِكم غَضَبِي؛ ويَهْزِمُكم أعْداؤُكُمْ؛ ويَتَسَلَّطُ (p-٢٢٨)عَلَيْكم شُنّاؤُكُمْ؛ وتَنْهَزِمُونَ مِن غَيْرِ أنْ يَهْزِمَكم أحَدٌ؛ وأُصَيِّرُ السَّماءَ فَوْقَكم مِثْلَ الحَدِيدِ؛ والأرْضَ تَحْتَكم مِثْلَ النُّحاسِ؛ ولا تَغُلُّ لَكم أرْضُكم غَلّاتِها؛ ولا تُثْمِرُ الشَّجَرُ ثِمارَها؛ وأُرْسِلُ عَلَيْكُمُ السِّباعَ الضّارِيَةَ فَتُهْلِكَكم وتُهْلِكُ بَهائِمَكُمْ؛ ويُسْتَوْحَشُ الطُّرُقُ مِنكُمْ؛ وأُسَلِّطُ عَلَيْكُمُ المَوْتَ؛ وأدْفَعُكم إلى أعْدائِكُمْ؛ وتَأْكُلُونَ ولا تَشْبَعُونَ؛ وتَصِيرُوا إلى ضِيقٍ حَتّى تَأْكُلُوا لُحُومَ بَناتِكُمْ؛ وأُخَرِّبُ مَنازِلَكُمْ؛ وأُفَرِّقُكم بَيْنَ الأُمَمِ؛ وتُخَرَّبُ قُراكُمْ؛ فَحِينَئِذٍ تُهْوِي الأرْضُ أسْباتَها؛ وتَسْبِتُ كُلَّ أيّامِ وحْشَتِها ما لَمْ تَسْبِتْ؛ حَيْثُ كُنْتُمْ فِيها عُصاةً لا تَسْبِتُونَ؛ والَّذِينَ يَبْقَوْنَ مِنكم أُلْقِي في قُلُوبِهِمْ فَزْعَةً؛ ويَطْرُدُهم صَوْتُ ورَقَةٍ تُحَرَّكُ؛ ويَهْرُبُونَ مِن صَوْتِ الوَرَقَةِ؛ كَما يَهْرُبُونَ مِنَ السَّيْفِ؛ ويُعَنَّفُونَ بِإثْمِهِمْ؛ ويُعاقَبُونَ بِإثْمِ آبائِهِمْ؛ ومِن بَعْدِ ذَلِكَ تَنْكَسِرُ قُلُوبُهُمُ الغُلْفُ). ولَمّا كانَ ما مَضى مِن ذَمِّهِمْ رُبَّما أفْهَمَ أنَّهُ لِكُلِّهِمْ؛ قالَ - مُسْتَأْنِفًا؛ جَوابًا لِمَن يَسْألُ عَنْ ذَلِكَ -: ﴿مِنهُمْ﴾؛ أيْ: أهْلِ الكِتابِ؛ ﴿أُمَّةٌ﴾؛ أيْ: جَماعَةٌ هي جَدِيرَةٌ بِأنْ تَقْصِدَ؛ ﴿مُقْتَصِدَةٌ﴾؛ أيْ: مُجْتَهِدَةٌ في العَدْلِ؛ لا غُلُوَّ ولا تَقْصِيرَ؛ وهُمُ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لِلْإسْلامِ بِحُسْنِ تَحَرِّيهِمْ؛ واجْتِهادِهِمْ؛ ﴿وكَثِيرٌ مِنهُمْ﴾؛ أيْ: بَنِي إسْرائِيلَ؛ ﴿ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾؛ أيْ: ما أسْوَأ (p-٢٢٩)فِعْلَهُمُ الَّذِي هم فِيهِ مُسْتَمِرُّونَ عَلى تَجْدِيدِهِ! فَفِيهِ مَعْنى التَّعْجِيبُ؛ والتَّعْبِيرُ بِالعَمَلِ؛ لِأنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّهُ لا يَصْدُرُ مِنهم إلّا عَنْ عِلْمٍ؛ وهُمُ الَّذِينَ حَرَّفُوا الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ؛ وارْتَكَبُوا العَظائِمَ في عَداوَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب