الباحث القرآني

ولَمّا كانَ خِتامُ هَذِهِ الآياتِ في تَرْهِيبِ المُعْرِضِ عَنِ الحُكْمِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مُطابِقًا لِقَوْلِهِ في أوَّلِ سِياقِ المُحارَبَةِ: ﴿ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنهم بَعْدَ ذَلِكَ في الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: ٣٢]؛ رَجَعَ إلى القَتْلِ؛ مُبَيِّنًا أنَّهم بَدَّلُوا في القَتْلِ؛ كَما بَدَّلُوا في الزِّنا؛ فَفَضَّلُوا بَنِي النَّضِيرِ عَلى بَنِي قُرَيْظَةَ؛ فَقالَ: ﴿وكَتَبْنا﴾؛ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ؛ ﴿عَلَيْهِمْ فِيها﴾؛ أيْ: في التَّوْراةِ؛ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ [المائدة: ٣٢]؛ وإذا أنْعَمْتَ النَّظَرَ وجَدْتَ ما بَيْنَهُما؛ لِشِدَّةِ اتِّصالِهِ؛ وقُوَّةِ الدّاعِيَةِ إلَيْهِ؛ كَأنَّهُ اعْتِراضٌ؛ ﴿أنَّ النَّفْسَ﴾؛ أيْ: مَقْتُولَةً قِصاصًا؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ ﴿بِالنَّفْسِ﴾؛ أيْ: بِقَتْلِ النَّفْسِ؛ بِغَيْرِ وجْهٍ مِمّا تَقَدَّمَ؛ ﴿والعَيْنَ﴾؛ أيْ: تُقْلَعُ؛ ﴿بِالعَيْنِ﴾؛ أيْ: قُلِعَتْ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ؛ ﴿والأنْفَ﴾؛ يُجْدَعُ؛ ﴿بِالأنْفِ﴾؛ كَذَلِكَ؛ ﴿والأُذُنَ﴾؛ تُصْلَمُ؛ ﴿بِالأُذُنِ﴾؛ عَلى ما تَقَدَّمَ؛ ﴿والسِّنَّ﴾؛ تُقْلَعُ؛ ﴿بِالسِّنِّ﴾؛ إذا قُلِعَتْ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقِّ؛ ﴿والجُرُوحَ﴾؛ أيْ: الَّتِي تَنْضَبِطُ كُلُّها؛ ﴿قِصاصٌ﴾؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ سَواءً بِسَواءٍ. ولَمّا أوْجَبَ - سُبْحانَهُ - هَذا؛ رَخَّصَ لَهم في النُّزُولِ عَنْهُ؛ فَسَبَّبَ عَنْ (p-١٥٥)ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ﴾؛ أيْ: عَفا عَنِ القِصاصِ؛ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّهُ؛ سَواءٌ كانَ هو المَجْرُوحَ؛ إنْ كانَ باقِيًا؛ أوْ وارِثَهُ إنْ كانَ هالِكًا؛ ﴿فَهُوَ﴾؛ أيْ: التَّصَدُّقُ بِالقِصاصِ؛ ﴿كَفّارَةٌ لَهُ﴾؛ أيْ: سِتارَةٌ لِذُنُوبِ هَذا العافِي؛ ولَمْ يَجْعَلْ لَهم دِيَةً؛ إنَّما هو القِصاصُ؛ أوِ العَفْوُ؛ فَمَن حَكَمَ بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُسْلِمُونَ؛ لِانْقِيادِهِمْ في هَذا الأمْرِ الصَّعْبِ لِأمْرِ اللَّهِ؛ ﴿ومَن لَمْ يَحْكُمْ﴾؛ أيْ عَلى وجْهِ الِاسْتِمْرارِ؛ ﴿بِما أنْـزَلَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ؛ فَلا أمْرَ لِأحَدٍ مَعَهُ؛ لِخَوْفٍ؛ أوْ رَجاءٍ؛ أوْ تَدَيُّنًا بِالإعْراضِ عَنْهُ؛ سَواءٌ حَكَمَ بِغَيْرِهِ؛ أوْ لا؛ ﴿فَأُولَئِكَ﴾؛ أيْ: البُعَداءُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقامَةِ؛ البُغَضاءُ إلى أهْلِ الكَرامَةِ؛ ﴿هُمُ الظّالِمُونَ﴾؛ أيْ: الَّذِينَ تَرَكُوا العَدْلَ؛ فَضَّلُوا؛ فَصارُوا كَمَن يَمْشِي في الظَّلامِ؛ فَإنْ كانَ تَدَيُّنًا بِالتَّرْكِ كانَ نِهايَةَ الظُّلْمِ؛ وهو الكُفْرُ؛ وإلّا كانَ عِصْيانًا؛ لِأنَّ اللَّهَ أحَقُّ أنْ يُخْشى ويُرْجى؛ رَوى ابْنُ إسْحاقَ؛ في السِّيرَةِ؛ في تَحاكُمِهِمْ في الزِّنا نَحْوَ ما تَقَدَّمَ؛ ثُمَّ قالَ: وحَدَّثَنِي داوُدُ بْنُ الحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - أنَّ الآياتِ مِن ”المائِدَةِ“؛ الَّتِي قالَ اللَّهُ فِيها: ﴿فاحْكم بَيْنَهم أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢]؛ إلى: ﴿المُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: ٤٢]؛ إنَّما نَزَلَتْ في الدِّيَةِ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ؛ وبَنِي قُرَيْظَةَ؛ وذَلِكَ أنَّ قَتْلى بَنِي النَّضِيرِ - وكانَ لَهم شَرَفٌ - يُؤَدُّونَ الدِّيَةَ الكامِلَةَ؛ وأنَّ (p-١٥٦)بَنِي قُرَيْظَةَ كانُوا يُؤَدُّونَ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ فَتَحاكَمُوا في ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ؛ فَحَمَلَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى الحَقِّ في ذَلِكَ؛ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَواءً؛ قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فاللَّهُ أعْلَمُ أيَّ ذَلِكَ كانَ؛ وأخْرَجَهُ النِّسائِيُّ في سُنَنِهِ؛ مِن طَرِيقِ ابْنِ إسْحاقَ؛ ورُوِيَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - أيْضًا؛ قالَ: «كانَ قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ؛ وكانَ النَّضِيرُ أشْرَفَ مِن قُرَيْظَةَ؛ وكانَ إذا قَتَلَ رَجُلٌ مِن قُرَيْظَةَ رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ قُتِلَ بِهِ؛ وإذا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِن قُرَيْظَةَ أدّى مِائَةَ وسَقٍ مِن تَمْرٍ؛ فَلَمّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِن قُرَيْظَةَ؛ فَقالُوا: ادْفَعُوهُ إلَيْنا نَقْتُلْهُ؛ فَقالُوا: بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ النَّبِيُّ ﷺ فَأتَوْهُ فَنَزَلَتْ: ﴿وإنْ حَكَمْتَ فاحْكم بَيْنَهم بِالقِسْطِ﴾ [المائدة: ٤٢]» والقِسْطُ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ؛ ثُمَّ نَزَلَتْ: ﴿أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠]؛انْتَهى. وهَذا نَصُّ ما عِنْدَهم مِنَ التَّوْراةِ في القِصاصِ؛ قالَ في السِّفْرِ الثّانِي: (وكُلُّ مَن ضَرَبَ رَجُلًا فَماتَ فَلْيُقْتَلْ قَتْلًا؛ وإذا تَشاجَرَ رَجُلانِ فَأصابا امْرَأةً حُبْلى؛ فَأخْرَجا جَنِينَها؛ ولَمْ تَكُنِ الرُّوحُ حَلَّتْ في السَّقْطِ بَعْدُ؛ فَلْيُغَرَّمْ عَلى قَدْرِ ما يُلْزِمُهُ زَوْجُ المَرْأةِ؛ ولْيُؤَدِّ ما حَكَمَ عَلَيْهِ الحاكِمُ؛ فَإنْ كانَتِ الرُّوحُ حَلَّتْ في السَّقْطِ؛ فالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ؛ والعَيْنُ بِالعَيْنِ؛ والسِّنُّ بِالسِّنِّ؛ واليَدُ بِاليَدِ؛ والرِّجْلُ بِالرِّجَلِ (p-١٥٧)والجِراحَةُ بِالجِراحَةِ؛ واللَّطْمَةُ بِاللَّطْمَةِ)؛ وقالَ في السِّفْرِ الثّالِثِ - بَعْدَ ذِكْرِ الأعْيادِ في الإصْحاحِ السّابِعَ عَشَرَ -: (ومَن قَتَلَ إنْسانًا يُقْتَلُ؛ ومَن قَتَلَ بَهِيمَةً يَدْفَعُ إلى صاحِبِها مِثْلَها؛ والرَّجُلُ يَضْرِبُ صاحِبَهُ؛ ويُؤَثِّرُ فِيهِ أثَرًا يُعابُ بِهِ؛ يُصْنَعُ بِهِ كَما صَنَعَ؛ والجُرُوحُ قِصاصٌ: الكَسْرُ بِالكَسْرِ؛ والعَيْنُ بِالعَيْنِ؛ والسِّنُّ بِالسِّنِّ؛ كَما يَصْنَعُ الإنْسانُ بِصاحِبِهِ كَذَلِكَ يُصْنَعُ بِهِ؛ القَضاءُ واحِدٌ لَكُمْ؛ ولِلَّذِينِ يُقْبِلُونَ إلَيَّ)؛ وقالَ في الثّانِي: (إذا ضَرَبَ الرَّجُلَ عَيْنَ عَبْدِهِ؛ أوْ أمَتِهِ؛ فَفَقَأها؛ فَلْيُعْتِقْهُ بَدَلَ عَيْنِهِ؛ وإذا قَلَعَ سِنَّ عَبْدِهِ أوْ أمَتِهِ فَلْيُعْتِقْهُ بَدَلَ سِنِّهِ)؛ وذَكَرَ أحْكامًا كَثِيرَةً؛ ثُمَّ قالَ: (ومَن ذَبَحَ لِلْأوْثانِ فَيُهْلَكُ؛ بَلْ لِلَّهِ وحْدَهُ)؛ وقالَ في الرّابِعِ: (ومَن يَقْتُلْ نَفْسًا لا يُقْتَلْ إلّا بِبَيِّنَةٍ عادِلَةٍ؛ ولا تُقْبَلُ شَهادَةُ شاهِدٍ واحِدٍ عَلى قَتْلِ النَّفْسِ؛ ولا تَقْبَلُوا رَشْوَةً في إنْسانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ القَتْلُ؛ بَلْ يُقْتَلُ؛ ولا تَأْخُذُوا مِنهُ رَشْوَةً لِيَهْرُبَ إلى قَرْيَةٍ؛ إلى المَلْجَإ؛ لِيَسْكُنَها إلى وفاةِ الحَبْرِ العَظِيمِ؛ ولا تُنَجِّسُوا الأرْضَ الَّتِي تَسْكُنُونَها؛ لِأنَّ الدَّمَ يُنَجِّسُ الأرْضَ؛ والأرْضُ الَّتِي يُسْفَكُ فِيها الدَّمُ لا يُغْفَرُ لِتِلْكَ الأرْضِ حَتّى يُقْتَلَ القاتِلُ الَّذِي قَتَلَ)؛ وقالَ في الخامِسِ: (ولا يُقْتَلُ مَن قَدْ وجَبَ عَلَيْهِ القَتْلُ إلّا بِشَهادَةِ رَجُلَيْنِ؛ (p-١٥٨)لا يُقْتَلُ بِشَهادَةِ رَجُلٍ واحِدٍ؛ وإذا رَجَمْتُمْ فالَّذِي يُشْهَدُ عَلَيْهِ فَلْيَبْدَأْ بِرَجْمِهِ الشُّهُودُ أوَّلًا؛ ثُمَّ يَبْدَأْ بِهِ جَمِيعُ الشُّعُوبِ؛ وأهْلِكُوا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ واسْتَأْصِلُوهم مِن بَيْنِكُمْ؛ وإنْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلى صاحِبِهِ شَهادَةَ زُورٍ؛ يَقُومُ الرَّجُلانِ قُدّامَ الحَبْرِ؛ والقاضِي فَيَفْحَصُونَ عَنْ أمْرِهِما فَحْصًا شَدِيدًا؛ فَإنْ وجَدُوا رَجُلًا شَهِدَ شَهادَةَ زُورٍ يَصْنَعُوا بِهِ مِثْلَ ما أرادَ أنْ يَصْنَعَ بِأخِيهِ؛ ونَحُّوا الشَّرَّ مِن بَيْنِكُمْ؛ وعاقِبُوا بِالحَقِّ؛ لِيَسْمَعَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ فَيَفْزَعُوا؛ ولا يَعُودُوا أنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ هَذا الفِعْلِ القَبِيحِ بَيْنَكُمْ؛ ولا تُشْفِقْ أعْيُنُكم عَلى الظّالِمِ؛ بَلْ يَكُونُ قَضاؤُكم نَفْسًا بِنَفْسٍ؛ وعَيْنًا بِعَيْنٍ وسِنًّا بِسِنٍّ؛ ويَدًا بِيَدٍ؛ ورِجْلًا بِرِجْلٍ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب