الباحث القرآني

ولَمّا اسْتَثْنى بَعْضَ ما أحَلَّ؛ عَلى سَبِيلِ الإبْهامِ؛ شَرَعَ في بَيانِهِ؛ ولَمّا كانَ مِنهُ ما نَهى عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ؛ لا مُطْلَقًا؛ بَلْ ما يَبْلُغُ مَحِلَّهُ؛ بَدَأ بِهِ؛ (p-٨)لِكَوْنِهِ في ذَلِكَ كالصَّيْدِ؛ وقَدَّمَ عَلى ذَلِكَ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ انْتِهاكِ مَعالِمِ الحَجِّ؛ المُنَبَّهِ عَلَيْهِ بِالإحْرامِ؛ أوْ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ؛ في كُلِّ مَكانٍ وزَمانٍ؛ فَقالَ - مُكَرِّرًا لِنِدائِهِمْ؛ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ؛ وتَنْبِيهًا لِعَزائِمِهِمْ؛ وتَذْكِيرًا لَهم بِما ألْزَمُوهُ أنْفُسَهم -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أيْ: دَخَلُوا في هَذا الدِّينِ طائِعِينَ؛ ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾؛ أيْ: مَعالِمَ حَجِّ بَيْتِ المَلِكِ الأعْظَمِ الحَرامِ؛ أوْ حُدُودَهُ في جَمِيعِ الدِّينِ؛ وشَعائِرُ الحَجِّ أدْخَلُ في ذَلِكَ؛ والِاصْطِيادُ أُولاها. ولَمّا ذَكَرَ ما عَمَّمَهُ في الحَرَمِ؛ أوْ مُطْلَقًا؛ أتْبَعَهُ ما عَمَّمَهُ في الزَّمانِ؛ فَقالَ: ﴿ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾؛ أيْ: فَإنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ مُعاقَدًا عَلى احْتِرامِهِ في الجاهِلِيَّةِ؛ والإسْلامِ؛ ولَعَلَّهُ وحَّدَهُ والمُرادُ الجَمْعُ؛ إشارَةً إلى أنَّ الأشْهُرَ الحُرُمَ كُلَّها في الحُرْمَةِ سَواءٌ. ولَمّا ذَكَرَ الحَرَمَ؛ والأشْهُرَ الحُرُمَ؛ ذَكَرَ ما يُهْدى لِلْحَرَمِ؛ فَقالَ: ﴿ولا الهَدْيَ﴾؛ وخَصَّ مِنهُ أشْرَفَهُ؛ فَقالَ: ﴿ولا القَلائِدَ﴾؛ أيْ: صاحِبَ القَلائِدِ مِنَ الهَدْيِ؛ وعَبَّرَ بِها مُبالَغَةً في تَحْرِيمِهِ؛ ولَمّا أكَّدَ في احْتِرامِ ما قَصَدَ بِهِ الحَرَمَ مِنَ البَهائِمِ؛ رَقّى الخِطابَ إلى مَن قَصَدَهُ مِنَ العُقَلاءِ؛ فَإنَّهُ مُماثِلٌ لِما تَقَدَّمَهُ؛ في أنَّ قَصْدَ البَيْتِ الحَرامِ حامٍ لَهُ؛ وزاجِرٌ عَنْهُ؛ مَعَ ما زادَ بِهِ مِن شَرَفِ العَقْلِ؛ فَقالَ: ﴿ولا آمِّينَ﴾؛ أيْ: ولا تُحِلُّوا التَّعَرُّضَ لِناسٍ قاصِدِينَ ﴿البَيْتَ الحَرامَ﴾؛ لِأنَّ مَن قَصَدَ بَيْتَ المَلِكِ كانَ مُحْتَرَمًا بِاحْتِرامِ ما قَصَدَهُ. (p-٩)ولَمّا كانَ المُرادُ القَصْدَ بِالزِّيارَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَبْتَغُونَ﴾؛ أيْ: حالَ كَوْنِهِمْ يَطْلُبُونَ؛ عَلى سَبِيلِ الِاجْتِهادِ؛ ﴿فَضْلا مِن رَبِّهِمْ﴾؛ أيْ: المُحْسِنِ إلَيْهِمْ؛ شُكْرًا لِإحْسانِهِ؛ بِأنْ يُثِيبَهم عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ ثَوابَهُ لا يَكُونُ عَلى وجْهِ الِاسْتِحْقاقِ الحَقِيقِيِّ أصْلًا؛ ولَمّا كانَ الثَّوابُ قَدْ يَكُونُ مَعَ السُّخْطِ؛ قالَ: ﴿ورِضْوانًا﴾؛ وهَذا ظاهِرٌ في المُسْلِمِ؛ ويَجُوزُ أنَّ يُرادَ بِهِ أيْضًا الكافِرُ؛ لِأنَّ قَصْدَهُ البَيْتَ الحَرامَ عَلى هَذا الوَجْهِ يُرِقُّ قَلْبَهُ فَيُهَيِّئُهُ لِلْإسْلامِ؛ وعَلى هَذا فَهي مَنسُوخَةٌ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ”فَإنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ - أيْ: في أصْلِ القَصْدِ؛ ولا في وصْفِهِ - فَهم حِلٌّ لَكُمْ؛ وإنْ لَمْ تَكُونُوا أنْتُمْ حُرُمًا؛ والصَّيْدُ حَلالٌ لَكُمْ“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ التَّصْرِيحَ بِما أفْهَمَهُ التَّقْيِيدُ فِيما سَبَقَ بِالإحْرامِ؛ فَقالَ: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ﴾ أيْ: مِنَ الإحْرامِ؛ بِقَضاءِ المَناسِكِ؛ والإحْصارِ؛ ﴿فاصْطادُوا﴾؛ وتَرَكَ الشَّهْرَ الحَرامَ إذْ كانَ الحَرامُ فِيهِ حَرامًا في غَيْرِهِ؛ وإنَّما صَرَّحَ بِهِ تَنْوِيهًا بِقَدْرِهِ؛ وتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ؛ ثُمَّ أكَّدَ تَحْرِيمَ قاصِدِ المَسْجِدِ الحَرامِ وإنْ كانَ كافِرًا؛ وإنْ كانَ عَلى سَبِيلِ المُجازاةِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾؛ أيْ: يَحْمِلَنَّكُمْ؛ ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾؛ أيْ: شِدَّةُ بُغْضِهِمْ. ولَمّا ذَكَرَ البُغْضَ أتْبَعَهُ سَبَبَهُ؛ فَقالَ: ”إنْ“؛ عَلى سَبِيلِ الِاشْتِراطِ الَّذِي يُفْهِمُ تَعْبِيرُ الحُكْمِ بِهِ أنَّهُ سَيَقَعُ؛ هَذا في قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وأبِي عَمْرٍو؛ (p-١٠)والتَّقْدِيرُ في قِراءَةِ الباقِينَ بِالفَتْحِ: لِأجْلِ أنْ ﴿صَدُّوكُمْ﴾ أيْ في عامِ الحُدَيْبِيَةِ أوْ غَيْرِهِ ﴿عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ أيْ عَلى ﴿أنْ تَعْتَدُوا﴾ أيْ يَشْتَدَّ عُودُكم عَلَيْهِمْ بِأنْ تَصُدُّوهم عَنْهُ، أوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإنَّ المُسْلِمَ مَن لَمْ يَزِدْهُ تَعَدِّي عَدُّوِهِ فِيهِ حُدُودَ الشَّرْعِ إلّا وُقُوفًا عِنْدَ حُدُودِهِ، وهَذا قَبْلَ نُزُولِ ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ [التوبة: ٢٨] سَنَةَ تِسْعٍ. ولَمّا نَهاهم عَنْ ذَلِكَ، وكانَ الِانْتِهاءُ عَنِ الحُظُوظِ شَدِيدًا عَلى النُّفُوسِ، وكانَ لِذَلِكَ لا بُدَّ في الغالِبِ مِن مُنْتَهٍ وآبٍ، أمَرَ بِالتَّعاوُنِ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ فَقالَ: ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ﴾ وهو ما اتَّسَعَ، وطابَ مِن خِلالِ الخَيْرِ ﴿والتَّقْوى﴾ وهي كُلُّ ما يَحْمِلُ عَلى الخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، فَإنَّهُ الحامِلُ عَلى البِرِّ، فَإنْ كانَ مِنكم مَن اِعْتَدى فَتَعاوَنُوا عَلى رَدِّهِ، وإلّا فازْدادُوا بِالمُعاوَنَةِ خيرًا. ولّمّا كانَ المُعِينُ عَلى الخَيْرِ قَدْ يُعِينُ عَلى الشَّرِّ، قالَ تَنبِيهًا عَلى المُلازَمَةِ في المُعاوَنَةِ عَلى الخَيْرِ، ناهِيًا أنْ يَغْضَبَ الإنْسانُ لِغَضَبِ أحَدٍ مِن صَدِيقٍ، أوْ قَرِيبٍ إلّا إذا كانَ الغَضَبُ لَهُ داعِيًا إلى بِرٍّ وتَقْوى: ﴿ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ﴾ أيْ الذَّنْبِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الضِّيقَ ﴿والعُدْوانِ﴾ أيْ المُبالَغَةِ في مُجاوَزَةِ الحُدُودِ والِانْتِقامِ والتَّشَفِّي وغَيْرِ ذَلِكَ، وكَرَّرَ الأمْرَ بِالتَّقْوى إشارَةً إلى أنَّها الحامِلَةُ عَلى كُلِّ خَيْرٍ فَقالَ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيْ الَّذِي لَهُ صِفاتُ الكَمالِ لِذاتِهِ فَلا تَتَعَدُّوا شَيْئًا مِن حُدُودِهِ؛ ولّمّا كانَ (p-١١)كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الِانْتِقامِ؛ وزَجْرُها عَنْ شِفاءِ داءِ الغَيْظِ وتَبْرِيدِ غِلَّةِ الأحْنِ في غايَةِ العُسْرِ؛ خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المَلِكَ الأعْظَمَ؛ ﴿شَدِيدُ العِقابِ﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب