الباحث القرآني

ولَمّا عَمَّ - سُبْحانَهُ - في ذِكْرِ فَضائِحِ بَنِي إسْرائِيلَ تارَةً؛ وخَصَّ أُخْرى؛ عَمَّ بِذِكْرِ طامَّةٍ مِن طَوامِّهِمْ؛ حَمَلَهم عَلَيْها العُجْبُ والبَطَرُ بِما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَقالَ: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى﴾؛ أيْ: كُلُّ طائِفَةٍ قالَتْ ذَلِكَ عَلى حِدَتِها؛ خاصَّةً لِنَفْسِها؛ دُونَ الخَلْقِ أجْمَعِينَ؛ ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ﴾؛ أيْ: بِما هو ناظِرٌ إلَيْنا بِهِ مِن جَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ؛ ﴿وأحِبّاؤُهُ﴾؛ أيْ: غَرِيقُونَ في كُلٍّ مِنَ الوَصْفَيْنِ - كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ العَطْفُ بِالواوِ -؛ ثُمَّ شَرَعَ يَنْقُضُ هَذِهِ الدَّعْوى نَقْضًا بَعْدَ نَقْضٍ؛ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ البُنُوَّةِ عَلى حَقِيقَتِها؛ أوْ مَجازِها؛ والَّذِي أوْرَثَهم هَذِهِ الشُّبْهَةَ - إنْ لَمْ يَكُونُوا قالُوا ذَلِكَ عِنادًا - أنَّ في مَوْضِعٍ مِنَ التَّوْراةِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ (تَعالى) لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: (شَعْبِي بِكْرِي)؛ وقالَ في أوَّلِ نُبُوَّةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَما ذَكَرْتُهُ في ”الأعْرافِ“: (وقُلْ لِفِرْعَوْنَ: هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ: ابْنِي بِكْرِي إسْرائِيلُ أُرْسِلَ لِيَعْبُدَنِي؛ فَإنْ أبَيْتَ أنْ تُرْسِلَ ابْنِي فَإنِّي أقْتُلُ ابْنَكَ بِكْرَكَ)؛ ونَحْوُ هَذا؛ وفي كَثِيرٍ مِمّا بَيْنَ أيْدِيهِمْ مِنَ الإنْجِيلِ عَنْ قَوْلِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: (p-٦٧)”افْعَلُوا كَذا لِتَكُونُوا بَنِي أبِيكُمُ الَّذِي في السَّماءِ“؛ ونَحْوُ ذَلِكَ؛ وقَدْ بَيَّنْتُ مَعْناهُ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ بِما يُوجِبُ رَدَّهُ إلى المُحَكِّمِ بِلا شُبْهَةٍ في أوَّلِ سُورَةِ ”آلِ عِمْرانَ“؛ قالَ البَيْضاوِيُّ في أوَّلِ سُورَةِ ”الكَهْفِ“: إنَّهم كانُوا يُطْلِقُونَ الأبَ والِابْنَ في تِلْكَ الأدْيانِ بِمَعْنى المُؤَثِّرِ والأثَرِ؛ وقالَ في ”البَقَرَةِ“؛ في تَفْسِيرِ: ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ﴾ [البقرة: ١١٧] إنَّهم كانُوا يُطْلِقُونَ الأبَ عَلى اللَّهِ؛ بِاعْتِبارِ أنَّهُ السَّبَبُ الأصْلِيُّ؛ ثُمَّ ظَنَّتِ الجَهَلَةُ مِنهم أنَّ المُرادَ بِهِ مَعْنى الوِلادَةِ؛ فَلِذاكَ كَفَرَ قائِلُهُ؛ ومُنِعَ مِنهُ مَنعًا مُطْلَقًا؛ انْتَهى. فَأوَّلُ نَقْضٍ نَقَضَ بِهِ - سُبْحانَهُ وتَعالى - هَذِهِ الدَّعْوى بَيانُ أنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ؛ فَقالَ: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ﴾؛ أيْ: إنْ كُنْتُمْ جامِعِينَ بَيْنَ كَوْنِكم أبْناءَ؛ وأحِبّاءَ؛ بَيْنَ عَطْفِ البُنُوَّةِ؛ وحُنُوِّ المَحَبَّةِ؛ ﴿بِذُنُوبِكُمْ﴾؛ وعَذابُهم مَذْكُورٌ في نَصِّ تَوْراتِهِمْ؛ في غَيْرِ مَوْطِنٍ؛ ومَشْهُورٌ في تَوارِيخِهِمْ؛ بِجَعْلِهِمْ قِرَدَةً؛ وخَنازِيرَ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ أيْ: فَإنْ كانَ المُرادُ بِالبُنُوَّةِ الحَقِيقَةَ فابْنُ الإلَهِ لا يَكُونُ لَهُ ذَنْبٌ؛ فَضْلًا عَنْ أنْ يُعَذَّبَ بِهِ؛ لِأنَّ الِابْنَ لا يَكُونُ إلّا مِن جِنْسِ الأبِ - (تَعالى) اللَّهُ عَنِ النَّوْعِيَّةِ والجِنْسِيَّةِ والصّاحِبَةِ؛ والوَلَدِ؛ عُلُوًّا كَبِيرًا -؛ وإنْ كانَ المُرادُ المَجازَ؛ أيْ: بِكَوْنِهِ يُكْرِمُكم إكْرامَ الوَلَدِ والحَبِيبِ؛ كانَ ذَلِكَ مانِعًا مِنَ التَّعْذِيبِ. ولَمّا كانَ مَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ يُعَذِّبُكم لِأنَّكم لَسْتُمْ أبْناءَ؛ ولا أحِبّاءَ؛ (p-٦٨)عَطَفَ عَلَيْهِ نَقْضًا آخَرَ؛ أوْضَحَ مِنَ الأوَّلِ؛ فَقالَ: ﴿بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾؛ وذَلِكَ أمْرٌ مُشاهَدٌ؛ والمُشاهَداتُ مِن أوْضَحِ الدَّلائِلِ؛ فَأنْتُمْ مُساوُونَ لِغَيْرِكم في البَشَرِيَّةِ؛ والحُدُوثِ؛ لا مَزِيَّةَ لِأحَدٍ مِنكم عَلى غَيْرِهِ في الخَلْقِ والبَشَرِيَّةِ؛ وهُما يَمْنَعانِ البُنُوَّةَ؛ فَإنَّ القَدِيمَ لا يَلِدُ بَشَرًا؛ والأبُ لا يَخْلُقُ ابْنَهُ؛ فامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ البُنُوَّةُ؛ وامْتَنَعَ بِتَعْذِيبِهِمْ أنْ يَكُونُوا أحِبّاءَ اللَّهِ؛ فَبَطَلَ الوَصْفانِ اللَّذانِ ادْعَوْهُما. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: يَفْعَلُ بِكم ما يَفْعَلُ بِسائِرِ خَلْقِهِ؛ وصَلَ بِهِ قَوْلَهُ - جَوابًا لِمَن يَقُولُ: وما هو فاعِلٌ بِمَن خَلَقَ؟ -: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ﴾؛ أيْ: مِن خَلْقِهِ؛ مِنكم ومِن غَيْرِكُمْ؛ فَضْلًا مِنهُ (تَعالى)؛ ﴿ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾؛ عَدْلًا؛ كَما تُشاهِدُونَهُ يُكْرِمُ ناسًا مِنكم في هَذِهِ الدّارِ؛ ويُهِينُ آخَرِينَ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ”لِأنَّهُ مالِكُ خَلْقِهِ؛ ومَلِكُهُمْ؛ لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ في شَيْءٍ مِن أمْرِهِ“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ - نَقْضًا ثالِثًا؛ بِما هو أعَمُّ مِمّا قَبْلَهُ؛ فَقالَ -: ﴿ولِلَّهِ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ؛ فَلا كُفُؤَ لَهُ؛ ﴿مُلْكُ السَّماواتِ﴾؛ وقَدَّمَها لِشَرَفِها؛ دَلالَةً عَلى مُلْكِ غَيْرِها مِن بابِ أوْلى؛ وصَرَّحَ بِقَوْلِهِ: ﴿والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾؛ أيْ: وأنْتُمْ مِمّا بَيْنَهُما؛ وقَدِ اجْتَمَعَ بِذَلِكَ مَعَ المُلْكِ والإبْداعِ؛ المِلْكُ والتَّصْرِيفُ والتَّصَرُّفُ التّامُّ؛ وذَلِكَ هو الغِنى المُطْلَقُ؛ ومَن كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْتاجًا إلى شَيْءٍ مِن ولَدٍ ولا غَيْرِهِ؛ ولا يَكُونُ لِأحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ؛ ولا يُسَوَّغُ عَلَيْهِ اعْتِراضٌ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَمِنهُ وحْدَهُ الِابْتِداءُ؛ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (p-٦٩)﴿وإلَيْهِ﴾؛ أيْ: وحْدَهُ؛ ﴿المَصِيرُ﴾؛ أيْ: الصَّيْرُورَةُ والرُّجُوعُ؛ وزَمانُ ذَلِكَ؛ ومَكانُهُ مَعْنًى في الدُّنْيا بِأنَّهُ لا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ مُرادِهِ؛ وحِسًّا في الآخِرَةِ؛ فَيَحْكُمُ بَيْنَ مَصْنُوعاتِهِ عَلى غايَةِ العَدْلِ - كَما هو مُقْتَضى الحِكْمَةِ؛ وشَأْنُ كُلِّ مَلِكٍ في إقامَةِ مُلْكِهِ بِإنْصافِ بَعْضِ عَبِيدِهِ مِن بَعْضٍ؛ لا يَجُوزُ عِنْدَهُ في مُوجِبِ السِّياسَةِ إطْلاقُ قَوِيِّهِمْ عَلى ضَعِيفِهِمْ؛ فَإنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلى خَرابِ المُلْكِ؛ وضَعْفِ المِلْكِ؛ فَإذا كانَ هَذا شَأْنَ المُلُوكِ في العَبِيدِ النّاقِصِينَ؛ فَما ظَنُّكَ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ؟! فَإذا عامَلَهم كُلَّهم بِالعَدْلِ أسْبَغَ عَلى مَن يُرِيدُ مَلابِسَ الفَضْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب