الباحث القرآني

ولَمّا فَرَغَ مِن زَجْرِهِمْ عَنْ أنْ يَشْرَعُوا لِأنْفُسِهِمْ؛ أوْ يَسْألُوهُ عَنْ أنْ يَشْرَعَ لَهُمْ؛ وأنْ يَسْألُوا مَن رَحِمَهم بِابْتِدائِهِمْ بِهَذا الشَّرْعِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ؛ اعْتِمادًا عَلى أنَّهُ ما ابْتَدَأ بِذَلِكَ إلّا وهو غَيْرُ مُخْفٍ عَنْهم شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ؛ ولا مُبْدٍ لَهم شَيْئًا يَضُرُّهُمْ؛ لِأنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - كَما تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلى ذَلِكَ -؛ قالَ - مُعَلِّلًا بِخِتامِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها -: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ صِفاتُ الكَمالِ؛ فَلا يَشْرَعُ شَيْئًا إلّا وهو عَلى غايَةِ الحِكْمَةِ؛ وأغْرَقَ (p-٣١٩)فِي النَّفْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن بَحِيرَةٍ﴾؛ وأكَّدَ النَّفْيَ بِإعادَةِ النّافِي؛ فَقالَ: ﴿ولا سائِبَةٍ ولا وصِيلَةٍ ولا حامٍ﴾؛ دالًّا بِذَلِكَ عَلى أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَقَعُ في شَرْعِهِ لِنَفْسِهِ عَلى الخَبِيثِ؛ دُونَ الطِّيبِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الكُفّارَ شَرَعُوا لِأنْفُسِهِمْ هَذا؛ وظَنُّوا أنَّهُ مِن مَحاسِنِ الأعْمالِ؛ فَإذا هو مِمّا لا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ؛ بَلْ ومِمّا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ أوْقَعَهم فِيما كانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأنَّهُ أقْبَحُ القَبائِحِ؛ وهو الكَذِبُ؛ بَلْ في أقْبَحِ أنْواعِهِ؛ وهو الكَذِبُ عَلى مَلِكِ المُلُوكِ؛ ثُمَّ صارَ لَهم دِينًا؛ وصارُوا أرْسَخَ النّاسِ فِيهِ؛ وهو عَيْنُ الكُفْرِ؛ وهم مُعْتَرِفُونَ بِأنَّهُ ما شَرَعَهُ إلّا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ؛ وهو أوَّلُ مَن غَيَّرَ دِينَ إبْراهِيمَ - كَما رَواهُ الطَّبَرانِيُّ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «”إنَّ عَمْرًا أوَّلُ مَن غَيَّرَ دِينَ إسْماعِيلَ؛ فَنَصَبَ الأوْثانَ؛ وبَحَرَ البَحِيرَةَ؛ وسَيَّبَ السَّوائِبَ؛ ووَصَلَ الوَصِيلَةَ؛ وحَمّى الحامِيَ“؛» ورَواهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في مَسْنَدِهِ؛ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - وفي آخِرِهِ: «”وكانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ أوَّلَ مَن حَمَلَ العَرَبَ عَلى عِبادَةِ الأصْنامِ“؛» ورَواهُ البُخارِيُّ في المَناقِبِ مِن صَحِيحِهِ؛ ومُسْلِمٌ في صِفَةِ النّارِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”رَأيْتُ عَمْرَو بْنَ عامِرٍ الخُزاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ في النّارِ؛ وكانَ أوَّلَ مَن سَيَّبَ السَّوائِبَ“؛» قالَ ابْنُ هِشامٍ في السِّيرَةِ: (p-٣٢٠)والبَحِيرَةُ عِنْدَهُمُ النّاقَةُ تُشَقُّ أُذُنُها؛ فَلا يُرْكَبُ ظَهْرُها؛ ولا يُجَزُّ وبَرُها؛ ولا يَشْرَبُ لَبَنَها إلّا ضَيْفٌ؛ أوْ يُتَصَدَّقُ بِهِ؛ وتُهْمَلُ لِآلِهَتِهِمْ؛ ورَوى البُخارِيُّ؛ في المَناقِبِ؛ ومُسْلِمٌ؛ في صِفَةِ النّارِ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: البَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّها لِلطَّواغِيتِ؛ ولا يَحْلِبُها أحَدٌ مِنَ النّاسِ؛ والسّائِبَةُ الَّتِي كانُوا يُسَيِّبُونَها لِآلِهَتِهِمْ؛ فَلا يُحْمَلُ عَلَيْها شَيْءٌ؛ وكَذا رَواهُ البُخارِيُّ أيْضًا في التَّفْسِيرِ؛ وقالَ: والوَصِيلَةُ النّاقَةُ البِكْرُ تُبَكِّرُ في أوَّلِ نِتاجِ الإبِلِ؛ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثى؛ وكانُوا يُسَيِّبُونَها لِطَواغِيتِهِمْ إنْ وصَلَتْ إحْداهُما بِالأُخْرى؛ لَيْسَ بَيْنَهُما ذَكَرٌ؛ وقالَ البُرْهانُ السَّفاقُسِيُّ في إعْرابِهِ: قالَ أبُو عُبَيْدٍ: وهي النّاقَةُ إذا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أبْطُنٍ؛ في الآخِرِ ذَكَرٌ؛ شَقُّوا أُذُنَها؛ وخَلَّوْا سَبِيلَها؛ لا تُرْكَبُ؛ ولا تُحْلَبُ - وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ -؛ وقالَ أبُو حَيّانَ في النَّهْرِ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: السّائِبَةُ هي الَّتِي تُسَيَّبُ لِلْأصْنامِ؛ أيْ: تُعْتَقُ؛ وكانَ الرَّجُلُ يُسَيِّبُ مِن مالِهِ شَيْئًا فَيَجِيءُ بِهِ إلى السَّدَنَةِ؛ وهم خَدَمُ آلِهَتِهِمْ؛ فَيُطْعِمُونَ مِن لَبَنِها لِلسَّبِيلِ؛ والوَصِيلَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّها الشّاةُ تُنْتِجُ سَبْعَةَ أبْطُنٍ؛ فَإنْ كانَ السّابِعُ أُنْثى لَمْ تَنْتَفِعِ النِّساءُ مِنها بِشَيْءٍ؛ إلّا أنْ تَمُوتَ؛ فَيَأْكُلَها الرِّجالُ والنِّساءُ؛ وإنْ كانَ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ؛ وأكَلُوهُ جَمِيعًا؛ (p-٣٢١)وإنْ كانَ ذَكَرًا وأُنْثى قالُوا: وصَلَتْ أخاها؛ فَتُتْرَكُ مَعَ أخِيها؛ فَلا تُذْبَحُ؛ ومَنافِعُها لِلرِّجالِ؛ دُونَ النِّساءِ؛ فَإذا ماتَتِ اشْتَرَكَ الرِّجالُ والنِّساءُ فِيها؛ وقالَ ابْنُ هِشامٍ: والحامِي: الفَحْلُ إذا نَتَجَ لَهُ عَشْرُ إناثٍ مُتَتابِعاتٍ؛ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ؛ حَمى ظَهْرَهُ؛ فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهُ؛ ولَمْ يُجَزَّ وبَرُهُ؛ وخُلِّيَ في إبِلِهِ يَضْرِبُ فِيها؛ لا يُنْتَفَعُ مِنهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ وقالَ السَّفاقُسِيُّ: قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهم - واخْتارَهُ أبُو عُبَيْدَةَ؛ والزَّجّاجُ -: هو الفَحْلُ يَنْتِجُ مِن صُلْبِهِ عَشْرَةَ أبْطُنٍ؛ فَيَقُولُونَ: قَدْ حَمى ظَهْرَهُ؛ فَيُسَيِّبُونَهُ لِأصْنامِهِمْ؛ فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. ولَمّا كانُوا قَدْ حَرَّمُوا هَذِهِ الأشْياءَ؛ وكانَ التَّحْرِيمُ والتَّحْلِيلُ مِن خَواصِّ الإلَهِ؛ وكانَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ؛ كانَ حُكْمُهم عَلَيْها بِالحُرْمَةِ نِسْبَةً لِذَلِكَ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ - كَذِبًا؛ فَقالَ (تَعالى) - بَعْدَ أنْ نَفى أنْ يَكُونَ جَعَلَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ -: ﴿ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أيْ: سَتَرُوا ما دَلَّ عَلَيْهِ عَقْلُهم مِن أنَّ اللَّهَ ما جَعَلَ هَذا؛ لِأنَّهم لا وُصُولَ لَهم إلَيْهِ - سُبْحانَهُ؛ وعَزَّ شَأْنُهُ -؛ فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿يَفْتَرُونَ﴾؛ أيْ: يَتَعَمَّدُونَ بِجَعْلِ هَذِهِ الأشْياءِ؛ مِن تَحْرِيمٍ؛ وتَحْلِيلٍ؛ ﴿عَلى اللَّهِ﴾؛ أيْ: المَلِكِ الأعْلى؛ ﴿الكَذِبَ﴾؛ فَيُحَرِّمُونَ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ؛ (p-٣٢٢)ويُحَلِّلُونَ ما لَمْ يُحَلِّلْهُ؛ ﴿وأكْثَرُهُمْ﴾؛ أيْ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا هَذِهِ الأشْياءَ؛ ﴿لا يَعْقِلُونَ﴾؛ أيْ: لا يَتَجَدَّدُ لَهم عَقْلٌ؛ وهُمُ الَّذِينَ ماتُوا عَلى كُفْرِهِمْ؛ ثُمَّ لَمّا حَرَّمُوا هَذِهِ الأشْياءَ اضْطُرُّوا إلى تَحْلِيلِ المَيْتَةِ؛ فَحَرَّمُوا الطَّيِّبَ؛ وأحَلُّوا الخَبِيثَ؛
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب