الباحث القرآني

ولَمّا كانَ إقْدامُهم عَلى كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ مِن غَيْرِ] مُشاوَرَةٍ لِمَن أرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِعِبادِهِ لِيُعْلِمَهم ما يَأْتُونَ وما يَذَرُونَ عَمَلَ مَن لا يَعْلَمُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرِيبٌ مِنهُ، وكانَ الإعْراضُ عَنْهُ حَيًّا وعَنْ بَذْلِ الجُهْدِ في اسْتِخْراجِ الأُمُورِ مِن شَرِيعَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أمْرًا مُفْسِدًا لِلْبَيْنِ إنْ لَمْ يُعْتَبَرْ ويُتَنَبَّهْ [لَهُ] غايَةَ التَّنَبُّهِ، أخْبَرَهم بِهِ مُنْزِلًا لَهم مَنزِلَةَ مَن [لا] يَعْلَمُ أنَّهُ مَوْجُودٌ مَعَهُ مُشِيرًا بِكَلِمَةِ التَّنْبِيهِ إلى [أنَّ] مَن أخَلَّ بِمُراعاةِ ذَلِكَ في عِدادِ الغافِلِينَ [فَقالَ]: ﴿واعْلَمُوا﴾ أيْ: أيُّها الأُمَّةُ، وقَدَّمَ الخَبَرَ إيذانًا بِأنَّ بَعْضَهم بِاعْتِراضِهِ أوْ بِإقْدامِهِ عَلى ما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ يَعْمَلُ عَمَلَ مَن لا يَعْلَمُ مِقْدارَ ما خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِن إنْعامِهِ عَلَيْهِ بِهِ ﷺ، فَهو يُفِيدُ تَوْبِيخَ مَن فَعَلَ ذَلِكَ: ﴿أنَّ فِيكُمْ﴾ [أيْ] عَلى وجْهِ الِاخْتِصاصِ لَكم ويا لَهُ مِن شَرَفٍ. ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾ أيِ: المَلِكِ الأعْظَمِ المُتَّصِفِ بِالجَلالِ والإكْرامِ عَلى حالٍ هي أنَّكم تُرِيدُونَهُ [أنْ] يَتْبَعُ أذاكُمْ، وذَلِكَ أمْرٌ شَنِيعٌ جِدًّا؛ فَإنَّهُ لا يَلِيقُ أنْ يَتَحَرَّكَ إلّا بِأمْرِ مَن أرْسَلَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْكُمُ الرُّجُوعُ عَنْ تِلْكَ الحالَةِ؛ فَإنَّكم تَجْهَلُونَ أكْثَرَ مِمّا تَعْلَمُونَ، ولِإرادَتِهِمْ أنْ لا يُطِيعَهم في جَمِيعِ الأُمُورِ عَبَّرَ بِالمُضارِعِ فَقالَ: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ وهو [لا] يُحِبُّ عَنَتَكم ولا شَيْئًا يَشُقُّ عَلَيْكم (p-٣٦٧)﴿فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ﴾ أيِ: الَّذِي تُرِيدُونَهُ عَلى فِعْلِهِ مِن أنَّهُ يَعْمَلُ في الحَوادِثِ عَلى مُقْتَضى ما يَعِنُّ لَكم وتَسْتَصْوُبُونَهُ لِيَكُونَ فِعْلُهُ مَعَكم فِعْلَ المِطْواعِ لِغَيْرِهِ التّابِعِ لَهُ، فَيَنْقَلِبُ حِينَئِذٍ الحالُ، ويَصِيرُ المَبْتُوعُ تابِعًا والمُطاعُ طائِعًا ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ أيْ: لَأُمِتُّمْ وهَلَكْتُمْ، ومَن أرادَ دائِمًا أنْ يَكُونَ أمْرُ الرَّسُولِ ﷺ تابِعًا لِأمْرِهِ فَقَدْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطانُ الكُفْرانَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الغاوُونَ، وسِياقُ ”لَوْ“ مُعْلِمٌ قَطْعًا أنَّ التَّقْدِيرَ: ولَكِنَّهُ ﷺ لا يُطِيعُكم لِكَراهَةٍ لِما يَشُقُّ عَلَيْكم لِما هو مُتَخَلِّقٌ بِهِ مِن طاعَةِ اللَّهِ والوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ والتَّقَيُّدِ في جَمِيعِ الحَرَكاتِ والسَّكَناتِ بِأمْرِهِ، مَعَ ما لَهُ مِنَ البَصْرَةِ في التَّمْيِيزِ بَيْنَ المُلْبِساتِ والخِبْرَةِ التّامَّةِ بِالأُمُورِ المُشْتَبِهاتِ، الَّتِي هي سَبَبُ هَلاكِ الأغْلَبِ لِكَوْنِها لا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، والتَّقْيِيدُ بِالكَثِيرِ مُعْلِمٌ بِأنَّهم يُصِيبُونَ وجْهَ الرَّشادِ في كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ حَتْمًا بِما هَدى إلَيْهِ السِّياقُ: ولَوْ خالَفْتُمُوهُ في الأُمُورِ الَّتِي [لا] يُطِيعُكم فِيها لَعَنِتُّمْ، اسْتَدْرَكَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ﴾ أيِ: المَلِكَ الأعْظَمَ الَّذِي يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ﴿حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ﴾ فَلَزِمْتُمْ طاعَتَهُ وعَشِقْتُمْ مُتابَعَتَهُ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ قَدْ يُحِبُّ شَيْئًا وهو يَعْلَمُ فِيهِ عَيْبًا، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأنْ يَتَزَلْزَلَ فِيهِ، نَفى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (p-٣٦٨)﴿وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ﴾ أيْ: فَلا شَيْءَ عِنْدَكم أحْسَنُ مِنهُ و[لا] يُعادِلُهُ ولا يُقارِبُهُ بِوَجْهٍ ﴿وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ﴾ وهو تَغْطِيَةُ ما أدَّتْ إلَيْهِ الفِطْرَةُ الأُولى والعُقُولُ المُجَرَّدَةُ عَنِ الهَوى مِنَ الحَقِّ بِالجُحُودِ ﴿والفُسُوقَ﴾ وهو المُرُوقُ مِن رِبْقَةِ الدِّينِ، ولَوْ مِن غَيْرِ تَغْطِيَةٍ بَلْ بِغَيْرِ تَأمُّلٍ ﴿والعِصْيانَ﴾ وهو الِامْتِناعُ مِنَ الِانْقِيادِ عامَّةً فَلَمْ تُخالِفُوهُ، ورَأيْتُمْ خِلافَهُ هَلاكًا، فَصِرْتُمْ والمِنَّةُ لِلَّهِ أطْوَعَ شَيْءٍ لِلرَّسُولِ ﷺ، فَعُلِمَ [مِن هَذا] أنَّ اللَّهَ تَعالى هو الفاعِلُ وحْدَهُ لِجَمِيعِ الأفْعالِ مِنَ الطّاعاتِ والمَعاصِي والعاداتِ والعِباداتِ؛ لِأنَّهُ خالِقٌ لِكُلٍّ، ومُدِحُوا لِفِعْلِ اللَّهِ بِهِمْ لِأنَّهُمُ الفاعِلُونَ في الظّاهِرِ فَهو واقِعٌ مَوْقِعَ: أطَعْتُمُ الرَّسُولَ ﷺ ولَمْ تُخالِفُوهُ، [وإنَّما وُضِعَ] فِعْلُ اللَّهِ وهو لا يُمْدَحُونَ عَلَيْهِ مَوْضِعَ فِعْلِهِمُ الَّذِي يُمْدَحُونَ عَلَيْهِ لِلْحَثِّ عَلى الشُّكْرِ والِانْسِلاخِ مِنَ العُجْبِ. ولَمّا أرْشَدَ السِّياقُ إلى مُتابَعَتِهِمْ عَلى هَذا الوَجْهِ، أنْتَجَ قَوْلَهُ مادِحًا لَهم ثانِيًا الكَلامَ عَنْ خِطابِهِمْ إلى خِطابِهِ ﷺ لِيَدُلَّ عَلى عِظَمِ هَذِهِ الأوْصافِ وبَيَّنَهُ بِأداةِ البُعْدِ عَلى عُلُوِّ مَقامِ المُتَّصِفِ: ﴿أُولَئِكَ﴾ [أيِ] الَّذِينَ أعْلى اللَّهُ القادِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مَقادِيرَهم ﴿هُمُ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿الرّاشِدُونَ﴾ أيِ الكامِلُونَ في الرُّشْدِ وهو الهُدى عَلى أحْسَنِ سَمْتٍ وتَقْدِيرٍ، وفي تَفْسِيرِ الأصْبِهانِيِّ: الرُّشْدُ الِاسْتِقامَةُ عَلى طَرِيقِ الحَقِّ (p-٣٦٩)مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ. انْتَهى. والَّذِي أنْتَجَ الرَّشادَ مُتابَعَةُ الحَقِّ؛ فَإنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لِمَن تَعَمَّدَ الخَيْرَ وجاهَدَ نَفْسَهُ عَلى البِرِّ بِإصابَةِ الصَّوابِ وإحْكامِ المَساعِي المُنافِي لِلنَّدَمِ. ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩] وقَدْ دَلَّ السِّياقُ عَلى أنَّهم كانُوا في خَبَرِ الوَلِيدِ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ صَدَّقَهُ وأرادَ غَزْوَةَ بَنِي المُصْطَلَقِ وأشارَ بِهِ، وصِنْفٌ تَوَقَّفَ، وأنَّ الصِّنْفَيْنِ سَلَّمُوا آخِرَ الأمْرِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَهُدُوا، فالآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ وهي شَبِيهَةٌ بِهِ: دَلَّتِ الشَّرْطِيَّةُ في ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ عَلى الِاسْتِدْراكِيَّةِ، والِاسْتِدْراكِيَّةُ في ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ﴾ عَلى تَقْدِيرِ الشَّرْطِيَّةِ دَلالَةً ظاهِرَةً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب