الباحث القرآني

ولَمّا كانَ ﷺ قَدْ أخْبَرَ المُؤْمِنِينَ بِرُؤْياهُ أنَّهُ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وعَزَّ عَلى العُمْرَةِ عامَ الحُدَيْبِيَةَ، وخَرَجَ ﷺ وخَرَجَ مَعَهُ خُلاصَةُ أصْحابِهِ ألْفٌ وخَمْسُمِائَةٍ، فَكانُوا مُوقِنِينَ أنَّهم يَعْتَمِرُونَ في وجْهِهِمْ ذَلِكَ، وقَرَّ [ذَلِكَ] في صُدُورِهِمْ وأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُهُمْ، فَصارَ نَزْعُهُ مِنها أشُقَّ شَيْءٍ يَكُونُ، قَصَدَهُمُ المُشْرِكُونَ بَعْدَ أنْ بَرَكَتْ ناقَتُهُ وصالَحَهم ﷺ عَلى أنْ يَرْجِعَ عَنْهم في ذَلِكَ العامِ ويَعْتَمِرَ في مِثْلِ ذَلِكَ الوَقْتِ مِنَ القابِلِ، وكانَ ذَلِكَ - بَلْ أدْنى مِنهُ - مُزَلْزِلًا لِلِاعْتِقادِ مُطْرِقًا لِشَيْطانِ الوَسْوَسَةِ في الدِّينِ، وقَدْ كانَ مِثْلُهُ في الإسْراءِ ولَمْ يَكُنْ ﷺ أخْبَرَ بِما يُوهِمُ في أمْرِهِ فارْتَدَّ ناسٌ كَثِيرٌ بِسَبَبِهِ، قالَ تَعالى دالًّا عَلى النَّصْرِ بِتَثْبِيتِ المُؤْمِنِينَ في هَذا المَحَلِّ الضَّنْكِ إظْهارًا لِتَمامِ قُدْرَتِهِ ولَطِيفِ حِكْمَتِهِ: (p-٢٨٤)﴿هُوَ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿الَّذِي أنْـزَلَ﴾ في يَوْمِ الحُدَيْبِيَةِ ﴿السَّكِينَةَ﴾ أيِ: الثَّباتَ عَلى الدِّينِ ﴿فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيِ: الرّاسِخِينَ في الإيمانِ وهم أهْلُ الحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ أنْ دَهَمَهم فِيها ما مِن شَأْنِهِ أنْ يُزْعِجَ النُّفُوسَ ويُزِيغَ القُلُوبَ مِن صَدِّ الكُفّارِ ورُجُوعِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم دُونَ مَقْصُودِهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْ أحَدٌ مِنهم عَنِ الإيمانِ بَعْدَ أنْ ماجَ النّاسُ وزُلْزِلُوا حَتّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ أنَّهُ الفارُوقُ ومَعَ وصْفِهِ في الكُتُبِ السّالِفَةِ بِأنَّهُ قَرْنٌ مِن حَدِيدٍ - فَما الظَّنُّ بِغَيْرِهِ في فَلْقِ نَفْسِهِ وتَزَلْزُلِ قَلْبِهِ، وكانَ لِلصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ القَدَمِ الثّابِتِ والأصْلِ الرّاسِخِ ما عُلِمَ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ لا يُسابَقُ، ثُمَّ ثَبَّتَهُمُ اللَّهُ أجْمَعِينَ، قالَ الرّازِيُّ: والسَّكِينَةُ: الثِّقَةُ بِوَعْدِ اللَّهِ، والصَّبْرُ عَلى حُكْمِ اللَّهِ، بَلِ السَّكِينَةُ هَهُنا مُعَيَّنٌ بِجَمْعٍ فَوْزًا وقُوَّةً ورُوحًا، يَسْكُنُ إلَيْهِ الخائِفُ ويَتَسَلّى بِهِ الحَزِينُ، وأثَرُ هَذِهِ السَّكِينَةِ الوَقارُ والخُشُوعُ وظُهُورُ الحَزْمِ في الأُمُورِ. انْتَهى. وكُلُّ مَن رَسَخَ في الإيمانِ لَهُ في هَذِهِ الآيَةِ نَصِيبٌ؛ جَناهُ دانٍ. ولَمّا أخْبَرَ بِما [لا] يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَزْدادُوا﴾ أيْ: بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ حِينَ قالَ لَهُمْ: إنَّهم لا بُدَّ أنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ ويَطُوفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ، وحَلَّهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشُّبْهَةِ بِتَذَكُّرِهِمْ أنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ: إنَّهم (p-٢٨٥)يَدْخُلُونَ العامَ ﴿إيمانًا﴾ بِهَذا التَّصْدِيقِ بِالغَيْبِ مِن [أنَّ] صُلْحَهم لِلْكُفّارِ ورُجُوعَهم مِن [غَيْرِ] بُلُوغِ قَصْدِهِمْ هو عَيْنُ الفَتْحِ لِتَرَتُّبِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ وتَرَتُّبِ فُشُوِّ الإسْلامِ عَلى الصُّلْحِ كَما كَشَفَ عَنْهُ الوُجُودُ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقِيسُوا عَلَيْهِ غَيْرَهُ مِنَ الأوامِرِ ﴿مَعَ إيمانِهِمْ﴾ الثّابِتِ مِن قَبْلِ هَذِهِ الواقِعَةِ، قالَ القُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: بِطُلُوعِ أقْمارِ اليَقِينِ عَلى نُجُومِ عِلْمِ اليَقِينِ، ثُمَّ بِطُلُوعِ شَمْسِ [حَقِّ] اليَقِينِ عَلى بَدْرِ عَيْنِ اليَقِينِ. ولَمّا كانَ رُبَّما ظَنَّ شَقِيٌّ مِن أخْذِ الأُمُورِ بِالتَّدْرِيجِ شَيْئًا في القُدْرَةِ قالَ: ﴿ولِلَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ نَصْرُهم في هَذِهِ العُمْرَةِ بِالقُوَّةِ ثُمَّ يَكُونُ عَنْ قَرِيبٍ بِالفِعْلِ والحالِ أنَّهُ لَهُ وحْدَهُ ﴿جُنُودُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: جَمِيعُها، ومِنها السَّكِينَةُ، يُدَبِّرُهم بِلَطِيفِ صُنْعِهِ وعَجِيبِ تَدْبِيرِهِ، فَلَوْ شاءَ لَنَصَرَ المُؤْمِنِينَ الآنَ بِالفِعْلِ، ودَمَّرَ عَلى أعْدائِهِمْ بِجُنُودٍ مِن جُنُودِهِ أوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ، لَكِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ النَّصْرُ بِكُمْ، فَيُعْلُوا أمْرُكم ويَعْظُمُ أجْرُكُمْ، ويَظْهَرَ الصّادِقُ في نَصْرِهِ مِنَ الكاذِبِ، فَإنَّ الدّارَ دارُ البَلاءِ، وبِناءُ المُسَبِّباتِ عَلى الأسْبابِ عَلى وجْهِ الأغْلَبِ فِيهِ الحِكْمَةُ، لا القَهْرُ وظُهُورُ الكَلِمَةِ، فاسْمُهُ الباطِنُ هو الظّاهِرُ في هَذِهِ الدّارِ، فَلِذَلِكَ تَرى المُسَبِّباتِ مَسْتُوراتٍ بِأسْبابِها، فَلا يَعْلَمُ الحَقائِقَ إلّا البُصَراءُ ألا تَرى أنَّهُ ﷺ لَمّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ فَتَلاها (p-٢٨٦)عَلَيْهِمْ قالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ: أيْ رَسُولَ اللَّهِ وفَتْحٌ هُوَ؟ قالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدُّونا عَنِ البَيْتِ وصَدُّوا هَدْيَنا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««بِئْسَ الكَلامُ هَذا، بَلْ هو أعْظَمُ الفَتْحِ، أما رَضِيتُمْ أنْ تَطْرُقُوهم في بِلادِهِمْ فَيَدْفَعُوكم عَنْها بِالرّاحِ ويَسْألُوكُمُ التَّضَيُّرَ ويَرْغَبُونَ إلَيْكم في الأمانِ وقَدْ رَأوْا مِنكم ما كَرِهُوا وأظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ورَدَّكم سالِمِينَ مَأْجُورِينَ، فَهو أعْظَمُ الفُتُوحِ، أنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إذْ تَصْعَدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلى أحَدٍ وأنا أدْعُوكم في أُخْراكُمْ، أنَسِيتُمْ يَوْمَ الأحْزابِ إذْ جاؤُوكم مِن فَوْقِكم ومِن أسْفَلَ مِنكم وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ"،» فَقالَ المُسْلِمُونَ: صَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ فَهو أعْظَمُ الفُتُوحِ. واللَّهِ يا نَبِيَّ اللَّهِ ما فَكَّرْنا فِيما فَكَّرْتَ فِيهِ، لَأنْتَ أعْلَمُ بِاللَّهِ وأمْرِهِ مِنّا. وأنْزَلَ اللَّهُ تَأْكِيدًا لِأمْرِ الرُّؤْيا لِمَن أشْكَلَ عَلَيْهِمْ حالُها: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ [الفتح: ٢٧] الآيَةَ. فَهَذِهِ الأشْياءُ كُلُّها كَما تَرى راجِعَةً إلى الخَفاءِ بِالتَّعَجُّبِ في أسْتارِ الأسْبابِ، فَلا يُبْصِرُها إلّا أرْبابُ التَّدْقِيقِ في النَّظَرِ في حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ. ولَمّا كانَ مَبْنى ما مَضى كُلِّهِ عَلى القُدْرَةِ بِأُمُورٍ خَفِيَّةٍ يَظْهَرُ مِنها (p-٢٨٧)مِنَ الضَّعْفِ غَيْرُ ما كَشَفَ عَنْهُ الزَّمانُ مِنَ القُوَّةِ، وكانَ تَمامُ القُدْرَةِ مُتَوَقِّفًا عَلى شُمُولِ العِلْمِ، قالَ تَعالى: ﴿وكانَ اللَّهُ﴾ أيِ: المَلِكُ الأعْظَمُ أزَلًا وأبَدًا ﴿عَلِيمًا﴾ بِالذَّواتِ والمَعانِي ﴿حَكِيمًا﴾ في إتْقانِ ما يَصْنَعُ، فَرَدَّهُ لَهم عَنْ هَذِهِ العُمْرَةِ بَعْدَ أنْ دَبَّرَ أمْرَ الصُّلْحِ لِيَأْمَنَ النّاسُ فَيُداخِلُ بَعْضُهم بَعْضًا لِما عَلِمَ مِن أنَّهُ لا يَسْمَعُ القُرْآنَ أحَدٌ لَهُ عَقْلٌ مُسْتَقِيمٌ ويَرى ما عَلَيْهِ أهْلُهُ مِن شِدَّةِ الِاسْتِمْساكِ بِهِ والبُغْضِ لِما كانُوا فِيهِ مِن مُتابَعَةِ الآباءِ إلّا بادَرَ إلى المُتابَعَةِ ودَخَلَ في الدِّينِ بِرَغْبَةٍ، وأدْخَلَ سُبْحانَهُ خُزاعَةَ في صُلْحِ النَّبِيِّ ﷺ وبَنِي بَكْرٍ وهم أعْداؤُهم في صُلْحِ قُرَيْشٍ لِيَبْغُوا عَلَيْهِمْ فَتُعِينُهم قُرَيْشٌ الصُّلْحَ بَعْدَ أنْ كَثُرَتْ جُنُودُ اللَّهِ وعَزَّ ناصِرُ الدِّينِ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ المُشَرَّفَةَ، فَتُنْشَرُ أعْلامُ الدِّينِ، وتَخْفِقُ ألْوِيَةُ النَّصْرِ المُبِينِ، ويَدْخُلُ النّاسُ في الدِّينِ أفْواجًا، فَيَظْهَرُ دِينُ الإسْلامِ عَلى جَمِيعِ الأدْيانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب