الباحث القرآني

(p-٣١٠)ولَمّا كانَ ذَلِكَ يُوقِعُ في نَفْسِ السّامِعِ السُّؤالَ عَنْ هَذا الطَّرْدِ: هَلْ يَسْتَمِرُّ؟ أُجِيبَ بِأنَّهم سَيُمْتَحَنُونَ بِأمْرٍ شاقٍّ يُحْدِثُهُ اللَّهُ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الخُلَّصِ وغَيْرِهِمْ، فَقالَ مُكَرِّرًا لِوَصْفِهِمْ بِالتَّخَلُّفِ إعْلامًا بِأنَّهم في الحَقِيقَةِ ما تَخَلَّفُوا، بَلْ مُنِعُوا طَرْدًا لَهم وإبْعادًا مُعَذِّبًا لَهم بِما خَلَّفَهم عَنِ اتِّباعِ النَّبِيِّ ﷺ في هَذِهِ العُمْرَةِ مِنَ الخَوْفِ مِن قِتالِ قُرَيْشٍ لِشِدَّةِ بَأْسِهِمْ كَما أثابَ المُحِبِّينَ لَهُ ﷺ بِضِدِّ ما عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ القِتالِ إلى النَّصْرِ أوِ المَوْتِ مِن كَفِّ أيْدِيهِمْ عَنْهم بِما جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ الأعْظَمِ والتَّفَرُّغِ لِفَتْحِ خَيْبَرَ وأخْذِ غَنائِمِها الكَثِيرَةِ مِن غَيْرِ كَبِيرِ كُلْفَةٍ ﴿قُلْ﴾ يا أعْظَمَ الخَلْقِ ﴿لِلْمُخَلَّفِينَ﴾ وزادَ في ذَمِّهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إلى الجَلافَةِ فَقالَ: ﴿مِنَ الأعْرابِ﴾ أيْ: أهْلِ غِلَظِ الأكْبادِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا القَيْدُ لِلِاحْتِرازِ عَنِ المُخَلَّفِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ [فَيَكُونُ إشارَةً إلى أنَّ الأعْرابَ يَنْقَسِمُونَ عِنْدَ هَذا الدُّعاءِ إلى مُطِيعٍ وعاصٍ - كَما أشارَ إلَيْهِ تَقْسِيمُهُ سُبْحانَهُ لَهُمْ- وأنَّ المُخَلَّفِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ] لِمِثْلِ ما اعْتَلَّ بِهِ الأعْرابُ لا مَطْمَعَ في صَلاحِهِمْ: ﴿سَتُدْعَوْنَ﴾ بِوَعْدٍ لا خُلْفَ فِيهِ بِإخْبارِ مُحِيطِ العِلْمِ والقُدْرَةِ دَعْوَةً مُحِيطَةً ونَفِيرًا عامًّا لِما أفْهَمَهُ الإسْنادُ إلى جَمِيعِهِمْ مِن داعٍ صَحَّتْ إمامَتُهُ (p-٣١١)فَوَجَبَتْ طاعَتُهُ، ودَلَّ عَلى بُعْدِهِمْ مِن أرْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلى قَوْمٍ﴾ ولَمّا أفْهَمَ التَّعْبِيرُ بِذَلِكَ أنَّ لَهم قُوَّةً وشِدَّةً عَلى ما يُحاوِلُونَهُ، أوْضَحَ المَعْنى بِقَوْلِهِ: ﴿أُولِي بَأْسٍ﴾ أيْ: شِدَّةٍ في الحَرْبِ وشَجاعَةٍ مَعَ مَكْرٍ ودَهاءٍ ﴿شَدِيدٍ﴾ ولَمّا كانَ المَعْنى كَأنَّهُ قِيلَ: لِماذا؟ قالَ تَعالى: ﴿تُقاتِلُونَهُمْ﴾ أيْ: بِأمْرِ إمامِكم ﴿أوْ يُسْلِمُونَ﴾ أيْ: يَدْعُوكم إلَيْهِمْ لِيَكُونَ أحَدُ الأمْرَيْنِ المُظْهَرَيْنِ لِأنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ هي العُلْيا: المُقاتَلَةُ مِنكم أوِ الإسْلامُ مِنهُمْ، فَإنْ لَمْ يُسْلِمُوا كانَ القِتالُ لا غَيْرَ، وإنْ أسْلَمُوا لَمْ يَكُنْ قِتالٌ؛ لِأنَّ الإمامَ لا غَرَضَ لَهُ إلّا إعْلاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، ولا يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ مِن إبْقاءٍ بِجِزْيَةٍ أوْ مُصالَحَةٍ أوْ مُتارَكَةٍ إلى مُدَّةٍ، ونَحْوِ ذَلِكَ، وهَذا الدّاعِي هو أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والقَوْمُ بَنُو حَنِيفَةَ وغَيْرُهم مِن أهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ كانَ الدُّعاءُ لَهم أوَّلَ خِلافَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّهم ثَقِيفٌ، فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الدُّعاءَ لَمْ يَكُنْ إلَيْهِمْ إنَّما كانَ المَقْصُودُ بِالذّاتِ فَتْحَ مَكَّةَ، وكانَ أمْرُ هَوازِنَ وثَقِيفٍ وغَيْرِهِما تَبَعًا لَهُ في غَزْوَتِهِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهم شَيْءٌ، وأيْضًا فَإنَّ ثَقِيفَ لَمّا عَسُرَ أمْرُهم تَرَكَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى أسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وتَرَكَ أيْضًا فِلالَ هَوازِنَ فَلَمْ يَتْبَعْهم ولَمْ يُؤْمَرْ بِاتِّباعِهِمْ، فَظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ إذا انْتَشَبَ القِتالُ لَمْ يَتْرُكْ إلّا أنْ حَصَلَ الإسْلامُ، والقَوْلُ بِأنَّهم فارِسُ والرُّومُ ضَعِيفٌ أيْضًا، فَإنَّ كُلًّا مِنهم (p-٣١٢)تُقْبَلُ مِنهُ الجِزْيَةُ، وتَأْوِيلُهُ بِأنَّهُ إسْلامٌ لُغَوِيٌّ لا داعِيَ لَهُ مَعَ إمْكانِ الحَقِيقَةِ، وقَدْ كانَ ما أشارَ إلَيْهِ التَّقْسِيمُ فَإنَّهم لَمّا دُعُوا [إلَيْهِمُ انْقَسَمُوا] إلى مُجِيبٍ وهُمُ الأكْثَرُ، وقَدْ آتاهُمُ اللَّهُ الأجْرَ الحَسَنَ في الدُّنْيا بِالغَنِيمَةِ والذِّكْرِ الجَمِيلِ وهو المَرْجُوُّ في الآخِرَةِ، ومُرْتَدٍّ وهم قَلِيلٌ وقَدْ أذاقَهُمُ اللَّهُ العَذابَ الألِيمَ في الدُّنْيا بِالقَتْلِ عَلى أقْبَحِ حالٍ، وهو يُذِيقُهم في الآخِرَةِ أعْظَمَ النَّكالِ، وأمّا قِتالُ غَيْرِ العَرَبِ فَأطاعَ فِيهِ الكُلُّ ولَمْ يَحْصُلْ فِيهِ ما أُشِيرَ إلَيْهِ مِنَ التَّقْسِيمِ، فَتَحَقَّقَ بِهَذا أنَّهم أهْلُ الرِّدَّةِ - واللَّهُ المُوَفِّقُ؛ ولِذَلِكَ سَبَّبَ عَنْ دَعْوَةِ الحَقِّ قَوْلَهُ مُرَدِّدًا القَوْلَ في حالِهِمْ مُبْهِمًا لَهُ إشارَةً إلى أنَّهم عِنْدَ الدُّعاءِ يَنْقَسِمُونَ إلى مُقْبِلٍ ومُتَوَلٍّ: ﴿فَإنْ تُطِيعُوا﴾ أيْ: تُوقِعُوا الطّاعَةَ لِلدّاعِي إلى ذَلِكَ، وهو أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ﴿يُؤْتِكُمُ اللَّهُ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ والقُدْرَةُ عَلى الإعْطاءِ والمَنعِ، لا رادَّ لِأمْرِهِ ﴿أجْرًا حَسَنًا﴾ دُنْيا وأُخْرى، جَعَلَ اللَّهُ طاعَةَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في هَذا الأمْرِ بِالخُصُوصِ كَطاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي طاعَتُهُ طاعَةُ اللَّهِ، جَزاءً لَهُ عَلى خُصُوصِهِ في مَزِيدِ تَسْلِيمِهِ لِما فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الصُّلْحِ وثَباتِهِ بِما أجابَ بِهِ عَمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما بِمِثْلِ جَوابِ النَّبِيِّ ﷺ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ حاضِرًا لَهُ كَما هو مَعْلُومٌ مِنَ السِّيرَةِ. (p-٣١٣)ولَمّا كانَتْ مُخالَفَةُ الرَّسُولِ ﷺ ومَن يَقُومُ مَقامَهُ لا تَكُونُ إلّا مِن مُنازَعَةٍ في الفِطْرَةِ الأُولى ومُعالَجَةٍ لَها، عَبَّرَ بِالتَّفَعُّلِ فَقالَ: ﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا﴾ عَنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ عِصْيانًا ﴿كَما تَوَلَّيْتُمْ﴾ أيْ: عالَجْتُمْ أنْفُسَكم وكَلَّفْتُمُوها التَّوَلِّيَ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ ﴿مِن قَبْلُ﴾ أيْ: بَعْضَ الأزْمانِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَلى هَذا الدُّعاءِ، وذَلِكَ في الحُدَيْبِيَةِ ﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾ أيْ: يُخالِطُكم بِعُقُوبَةٍ تُزِيلُ العُذُوبَةَ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ أوْ فِيهِما ﴿عَذابًا ألِيمًا﴾ لِأجْلِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب