الباحث القرآني

[ولَمّا] ذَكَرَ الرَّسُولَ ﷺ وما أرْسَلَهُ لَهُ، وخَتَمَ الآيَةَ بِأنَّهُ لا يَرْضى مِن ذِكْرِهِ وذِكْرِ رَسُولِهِ إلّا بِالمُداوَمَةِ بِالفِعْلِ أوْ بِالقُوَّةِ مَعَ تَوْحِيدِهِ الضَّمِيرَ إشارَةً إلى وحْدَةِ الإرادَةِ والمَحَبَّةِ مِنَ الرَّسُولِ والمُرْسِلِ، أوْضَحَ المُرادَ بِتَوْحِيدِ الضَّمِيرِ بِقَوْلِهِ مُرَغِّبًا في اتِّباعِهِ ومُرَهِّبًا لِأتْباعِهِ عَنْ أدْنى فَتْرَةٍ أوْ تَوانٍ فِيما دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الإيمانِ (p-٢٩٥)الَّذِي هو عِلَّةُ الرِّسالَةِ، وما ذَكَرَهُ مَعَهُ في جَوابِ مَن يَسْألُ: ما سَبَبُ تَوْحِيدِ الضَّمِيرِ والمَذْكُورُ اثْنانِ؟ مُؤَكِّدًا لِأجْلِ ما غَلَبَ عَلى الطِّباعِ البَشَرِيَّةِ مِنَ التَّقَيُّدِ بِالوَهْمِ والنُّكُوصِ عَمّا غابَ ولا مُرْشِدَ إلَيْهِ سِوى العَقْلِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ﴾ . ولَمّا كانَ المُضارِعُ قَدْ يُرادُ بِهِ مُطْلَقُ الوُقُوعِ لا بِقَيْدٍ زَمَنٍ مُعَيَّنٍ كَما نَقَلْتُهُ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ عَنْ أبِي حَيّانَ وغَيْرِهِ، عَبَّرَ بِهِ تَرْغِيبًا في تَجْدِيدِ مِثْلِ ذَلِكَ والِاسْتِمْرارِ عَلَيْهِ فَقالَ: ﴿يُبايِعُونَكَ﴾ أيْ: في بَيْعَةِ الرِّضْوانِ وقَبْلَها وبَعْدَها عَلى ما جِئْتَ بِهِ مِنَ الرِّسالَةِ الَّتِي مَقْصُودُها الأعْظَمُ النِّذارَةُ الَّتِي مَبْناها عَلى المُخالَفَةِ الَّتِي تَتَقاضى الشَّدائِدَ الَّتِي عِمادُها الثَّباتُ والصَّبْرُ، وسُمِّيَتْ ”مُبايَعَةً“ لِأنَّهم بايَعُوا أنْفُسَهم فِيها مِنَ اللَّهِ بِالجَنَّةِ وهَذا مَعْنى الإسْلامِ، فَكُلُّ مَن أسْلَمَ فَقَدْ باعَ نَفْسَهُ سُبْحانَهُ [مِنهُ] ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: ١١١] الآيَةَ. ﴿إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ أيِ: المَلِكَ الأعْظَمَ؛ لِأنَّ عَمَلَكَ كُلَّهُ مِن قَوْلٍ وفِعْلٍ لَهُ ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ [النجم: ٣] ولَمّا عَظَّمَ بَيْعَتَهُ بِما رَغَّبَ فِيها تَرْغِيبًا مُشْعِرًا بِالتَّرْهِيبِ، زادَها تَعْظِيمًا بِما التَّرْهِيبُ فِيهِ أظْهَرُ مِنَ الأوَّلِ، فَقالَ مُبَيِّنًا لِلْأوَّلِ: ﴿يَدُ اللَّهِ﴾ أيْ: (p-٢٩٦)المُتَرَدِّي بِالكِبْرِياءِ. ولَمّا كانَ مُنَزَّهًا عَمّا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنَ الجارِحَةِ مِمّا فِيهِ شائِبَةُ نَقْصٍ، أوْمَأ إلى نَفْيِ ذَلِكَ بِالفَوْقِيَّةِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى تَعْظِيمِ البَيْعَةِ فَقالَ: ﴿فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ أيْ: في المُبايَعَةِ عالِيَةً عَلَيْهِمْ بِالقُدْرَةِ والقُوَّةِ والقَهْرِ والعِزَّةِ والتَّنَزُّهِ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ، ولِذَلِكَ كَرَّرَ الِاسْمَ الأعْظَمَ في هَذِهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ؛ إشارَةً إلى العَظَمَةِ الفائِتَةِ لِلْوَصْفِ والغَيْبِ العالِي عَنِ الإدْراكِ، ثُمَّ أعادَ ذِكْرَهُ بِالضَّمِيرِ إيذانًا بِالغَيْبِ المَحْضِ، هَذا هو المُرادُ مِن تَعْظِيمِ البَيْعَةِ وإجْلالِ الرَّسُولِ ﷺ مَعَ العِلْمِ القَطْعِيِّ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحانَهُ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ مِن حُلُولٍ أوِ اتِّحادٍ كَما هو واضِحٌ في مَجارِي عاداتِ العَرَبِ ظاهِرٌ جِدًّا في دَأْبِهِمْ في مُحاوَراتِهِمْ، لا يَشُكُّ فِيهِ مِنهم عاقِلٌ عالِمٌ أوْ جاهِلٌ أصْلًا، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى مَن حَمَلَهُ عَلى الظّاهِرِ مِن أهْلِ العِنادِ بِبِدْعَةِ الِاتِّحادِ عَلى مَن تَبِعَهم عَلى ذَلِكَ مِنَ الرِّعاعِ الطَّغامِ الَّذِينَ شاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وجَمِيعَ الأئِمَّةِ الأعْلامِ، وسائِرَ أهْلِ الإسْلامِ، ورَضُوا لِأنْفُسِهِمْ بِأنْ يَكُونُوا أتْباعَ فِرْعَوْنَ اللَّعِينِ، وناهِيكَ بِهِ في ضَلالٍ مُبِينٍ. ولَمّا كانَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى - وإنْ جَرى مَجْرى الشَّرْطِ والتَّهْدِيدِ لا بُدَّ أنْ يَقَعَ مِنهُ شَيْءٌ وإنْ قَلَّ، وكانَ مِن سِرِّ التَّعْبِيرِ بِالمُضارِعِ ”يُبايِعُونَكَ“ الإشارَةَ إلى نَكْثِ الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أصْلَ بَيْعَتِهِ عَلى الإسْلامِ (p-٢٩٧)فَإنَّهُ اخْتَبَأ في الحُدَيْبِيَةَ وقْتَ البَيْعَةِ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ، فَلَمْ يُبايِعْ، سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ وفَصَّلَ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا، فَقالَ مُعَبِّرًا بِالماضِي إيذانًا بِأنَّهُ لا يَنْكُثُ أحَدٌ مِن أهْلِ هَذِهِ البَيْعَةِ: ﴿فَمَن نَكَثَ﴾ أيْ: نَقَضَ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ فَجَعَلَها كالكِساءِ الخَلِقِ والحَبْلِ البالِي الَّذِي يُنْقَضُ ﴿فَإنَّما يَنْكُثُ﴾ وعَبَّرَ بِالمُضارِعِ إشارَةً إلى أنَّ مَن فَعَلَ النَّكْثَ فَهو في كُلِّ لَحْظَةٍ ناكِثٌ نَكْثًا جَدِيدًا ﴿عَلى نَفْسِهِ﴾ لا عَلى غَيْرِها؛ فَإنَّهُ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ ومَسْمَعٍ [وهُوَ] قادِرٌ عَلَيْهِ جَدِيرٌ بِأنْ يُعاقِبَهُ بَعْدَ ما عَجَّلَ لِنَفْسِهِ مِنَ العارِ العَظِيمِ في الدُّنْيا ويَسْتَحِلُّ بِهِ عَلى نَكْثِهِ عَذابًا ألِيمًا، ولا يَضُرُّ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا؛ فَإنَّ اللَّهَ ناصِرُهُ لا مَحالَةَ، وكَذا كُلُّ مَنكُوثٍ بِهِ [إذا] أرادَ اللَّهُ نُصْرَتَهُ فَإنَّ يَدَهُ سُبْحانَهُ فَوْقَ كُلِّ يَدٍ. ولَمّا أتَمَّ التَّرْهِيبَ لِأنَّهُ مَقامُهُ لِلْحَثِّ عَلى الوَفاءِ الَّذِي بِهِ قِيامُ الدِّينِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ، أتْبَعَهُ عَلى عادَتِهِ التَّرْغِيبَ إتْمامًا لِلْحَثِّ فَقالَ تَعالى: ﴿ومَن أوْفى﴾ أيْ: فَعَلَ الإتْمامَ والإكْثارَ والإطالَةَ ﴿بِما عاهَدَ﴾ وقَدَّمَ الظَّرْفَ اهْتِمامًا بِهِ فَقالَ: ﴿عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ أيِ: المَلِكَ المُحِيطَ بِكُلِّ (p-٢٩٨)شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا مِن هَذِهِ المُبايَعَةِ وغَيْرِها فَإنَّما وفاؤُهُ لِنَفْسِهِ ﴿فَسَيُؤْتِيهِ﴾ أيْ: بِوَعْدٍ لا خُلْفَ فِيهِ ﴿أجْرًا عَظِيمًا﴾ لا يَسَعُ عُقُولَكم شَرْحُ وصْفِهِ، ومَن قَرَأ بِالنُّونِ أظْهَرَ ما سُتِرَ في الجَلالَةِ مِنَ التَّعْظِيمِ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: ذَكَرَ أوَّلًا أنَّ النَّكْثَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَلى أنَّ الوَفاءَ لَهُ ثانِيًا، وإيتاءَ الأجْرِ ثانِيًا دَلِيلًا عَلى إحْلالِ العِقابِ أوَّلًا وسِرُّهُ أنَّهُ بَيَّنَ أنَّ ما يُرِيدُهُ النّاكِثُ مِنَ الأذى لِغَيْرِهِ إنَّما هو واقِعٌ بِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أعْظَمُ في التَّرْهِيبِ عَنِ النَّكْثِ لِما جُبِلَ الإنْسانُ عَلَيْهِ مِنَ النُّفْرَةِ عَنْ ضُرِّ نَفْسِهِ وبُعْدِهِ عَنْهُ، وذَكَرَ الأجْرَ لِلْمُوفِي؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ في التَّرْغِيبِ، وسَبَبُ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ هَذِهِ: "أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا فَهِمَ مِن بُرُوكِ ناقَتِهِ في الحُدَيْبِيَةَ الإشارَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى إلى أنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ في دُخُولِهِمُ البَلَدَ الحَرامَ في هَذِهِ السَّفْرَةِ، فَمَشى مَعَ إرادَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِأنَّهُ لَيْسَ فِيها مُخالَفَةٌ لِما أمَرَ بِهِ سُبْحانَهُ إلى أنَّ وقْعَ الصُّلْحِ الَّذِي كانَ الفَتْحَ هو بِعَيْنِهِ، وكانَ في غُضُونِ ذَلِكَ أنْ أرْسَلَ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إلى مَكَّةَ المُشَرَّفَةِ لِيُخْبِرَ قُرَيْشًا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ [لَمْ يَجِئْ لِقِتالٍ وأنَّهُ لا يُرِيدُ إلّا الِاعْتِمارَ، فَأرْجَفَ مُرْجِفُونَ بِأنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَعَزَمَ النَّبِيُّ ﷺ] عَلى مُناجَزَتِهِمْ فَبايَعَ الصَّحابَةَ (p-٢٩٩)رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم عَلى أنْ لا يَفِرُّوا عَنْهُ، فَبايَعَ كُلُّ مَن [كانَ] مَعَهُ إلّا جَدِّ بْنِ قَيْسٍ؛ فَإنَّهُ اخْتَبَأ تَحْتَ إبِطِ بَعِيرِهِ فَلَمْ يُبايِعْ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ««كُلُّكم مَغْفُورٌ لَهُ إلّا صاحِبَ الجَمَلِ الأحْمَرِ»».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب