الباحث القرآني
ولَمّا أخْبَرَ بِبُخْلِهِمْ لَوْ سُئِلُوا جَمِيعَ أمْوالِهِمْ أوْ أكْثَرِها، دَلَّ عَلَيْهِ بِمَن يَبْخَلُ مِنهم عَمّا سَألَهُ [مِنهُمْ] وهو جُزْءٌ يَسِيرٌ [جِدًّا] مِن أمْوالِهِمْ، فَقالَ مُنَبِّهًا لَهم عَلى حُسْنِ تَدْبِيرِهِ لَهم وعَفْوِهِ عَنْهم عِنْدَ مَن جَعَلَ ”ها“ لِلتَّنْبِيهِ، ومَن جَعَلَ الهاءَ بَدَلًا مِن هَمْزَةِ اسْتِفْهامٍ جَعَلَها لِلتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ، لِأنَّ مِن حَقِّ مَن دَعاهُ مَوْلاهُ أنْ يُبادِرَ لِلْإجابَةِ مَسْرُورًا فَضْلًا أنْ يَبْخَلَ، وفي هاءِ التَّنْبِيهِ ولا سِيَّما عِنْدَ مَن يَرى تَكَرُّرَها تَأْكِيدٌ لِأجْلِ اسْتِبْعادِهِمْ أنَّ أحَدًا يَبْخَلُ عَمّا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ها أنْتُمْ﴾ وحَقَّرَ أمْرَهم أوْ أحْضَرَهُ في الذِّهْنِ وصَوَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ﴾ أيْ: إلى رَبِّكُمُ الَّذِي لا يُرِيدُ بِدُعائِكم إلّا نَفْعَكم وأمّا هو فَلا يَلْحَقُهُ نَفْعٌ ولا ضُرٌّ ﴿لِتُنْفِقُوا﴾ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الزَّكاةِ وهي رُبْعُ العُشْرِ ونَحْوَهُ، ومِن نَفَقَةِ الغَزْوِ وقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الغَنِيمَةِ أضْعافُها وقَدْ يَحْصُلُ مِنَ المَتْجَرِ أوْ أكْثَرَ، وقَدْ عَمَّ ذَلِكَ وغَيْرَهُ (p-٢٦٩)قَوْلُهُ: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ: المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي يُرْجى خَيْرُهُ ويُخْشى ضَيْرُهُ، بِخِلافِ مَن يَكُونُ وما يَكُونُ بِهِ اللَّهْوُ واللَّعِبُ.
ولَمّا أخْبَرَ بِدُعائِهِمْ، فَصَّلَهم فَقالَ تَعالى: ﴿فَمِنكُمْ﴾ أيْ: أيُّها المُدَّعُونَ ﴿مَن يَبْخَلُ﴾ وهو مِنكم لا شَكَّ فِيهِ، وحَذَفَ القَسَمَ [الآخَرَ] وهو ”ومِنكم مَن يَجُودُ“ لِأنَّ المُرادَ الِاسْتِدْلالُ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ البُخْلِ. ولَمّا كانَ بُخْلُهُ عَمَّنْ أعْطاهُ المالَ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ مِنهُ إنَّما طَلَبَهُ لِيَقَعَ المَطْلُوبُ مِنهُ فَقَطْ زادَ العَجَبُ بِقَوْلِهِ:﴿ومَن﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُ مَن ﴿يَبْخَلُ﴾ بِذَلِكَ ﴿فَإنَّما يَبْخَلُ﴾ أيْ: بِمالِهِ بُخْلًا صادِرًا ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ الَّتِي هي مَنبَعُ الدَّنايا، فَلا تَنَفُّسَ و[لا] تَنافُسَ إلّا في الشَّيْءِ الخَسِيسِ؛ فَإنَّ نَفْعَ ذَلِكَ الَّذِي طُلِبَ مِنهُ فَبَخِلَ بِهِ إنَّما هو لَهُ، وأكَّدَهُ لِأنَّهُ لا يَكادُ أحَدٌ يُصَدِّقُ أنَّ عاقِلًا يَتَجاوَزُ بِمالِهِ عَنْ نَفْعِ نَفْسِهِ، ولِذا حَذَفَ: ”ومَن يَجُدْ فَإنَّما يَجُدْ عَلى نَفْسِهِ“ لِفَهْمِهِ عَنِ السِّياقِ واسْتِغْناءِ الدَّلِيلِ عَنْهُ، هَذا والأحْسَنُ أنْ يَكُونَ ”يَبْخَلْ“ مُتَضَمِّنًا ”يُمْسِكْ“ ثُمَّ حَذَفَ ”يُمْسِكْ“ ودَلَّ عَلَيْهِ بِحالٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْها التَّعْدِيَةُ بِعَنْ.
ولَمّا كانَ سُؤالُ المالِ قَدْ يُوهِمُ شَيْئًا، قالَ مُزِيلًا لَهُ مُقَرِّرًا لِأنَّ بُخْلَ الإنْسانِ إنَّما هو عَنْ نَفْسِهِ عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: لِأنَّ ضَرَرَ بُخْلِهِ إنَّما (p-٢٧٠)يَعُودُ عَلَيْهِ وهو سُبْحانُهُ لَمْ يَسْألْكم ذَلِكَ لِحاجَتِهِ إلَيْهِ ولا إلى شَيْءٍ مِنكُمْ، بَلْ لِحاجَتِكم إلى الثَّوابِ، وهو سُبْحانُهُ قَدْ بَنى أُمُورَ هَذِهِ الدّارِ كَما اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ عَلى الأسْبابِ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ: المَلِكُ الأعْظَمُ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ ﴿الغَنِيُّ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿وأنْتُمُ﴾ أيُّها المُكَلَّفُونَ خاصَّةً ﴿الفُقَراءُ﴾ لِأنَّ العَطاءَ يَنْفَعُكم والمَنعَ يَضُرُّكم. فَمَنِ افْتَقَرَ مِنكم إلى فَقِيرٍ مِثْلِهِ وقَعَ في الذُّلِّ والهَوانِ، وقَدْ جَرَتْ عادَتُكم أنْ يُداخِلَكم مِنَ السُّرُورِ ما لا يَجِدُ إذا طَلَبَ مِن أحَدٍ مِنكم أحَدٌ مِنَ الأجْوادِ الأغْنِياءِ شَيْئًا طَمَعًا في جَزائِهِ، فَكُونُوا كَذَلِكَ وأعْظَمَ إذا طَلَبَ مِنكُمُ الغِنى المُطْلَقَ.
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَإنْ تَقْبَلُوا بِنَوْلِكم تُفْلِحُوا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ مُرَهِّبًا؛ لِأنَّ التَّرْهِيبَ أرْدَعُ: ﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا﴾ أيْ: تَوَقَّعُوا التَّوَلِّيَ عَنْهُ تُكَلِّفُوا أنْفُسَكم ضِدَّ ما تَدْعُو إلَيْهِ الفِطْرَةُ الأُولى مِنَ السَّماحِ بِذَلِكَ الجَزاءِ اليَسِيرِ جِدًّا المُوجِبِ لِلثَّوابِ الخَطِيرِ والفَوْزِ الدّائِمِ، ومِنَ الجِهادِ في سَبِيلِهِ، والقِيامِ بِطاعَتِهِ، لِكَوْنِهِ المُحْسِنَ الَّذِي لا مُحْسِنَ في الحَقِيقَةِ غَيْرُهُ ﴿يَسْتَبْدِلْ﴾ أيْ: يُوجِدْ ﴿قَوْمًا﴾ فِيهِمْ قُوَّةٌ وكِفايَةٌ لِما يُطْلَبُ مِنهم مُحاوَلَتُهُ.
(p-٢٧١)ولَمّا كانَ ذَلِكَ مُفْهِمًا أنَّهم غَيْرُهُمْ، لَكِنَّهُ لا يَمْنَعُ أنْ يَكُونُوا - مَعَ كَوْنِهِمْ غَيْرَ أعْيانِهِمْ - مِن قَوْمِهِمْ أوْ أنْ يَشَأْ دُونَهم في الصِّفاتِ وإنْ كانُوا مِن غَيْرِ قَوْمِهِمْ، نَبَّهَ عَلى أنَّهم يَكُونُونَ مِن غَيْرِ قَوْمِهِمْ وعَلى غَيْرِ صِفاتِهِمْ، بَلْ هم أعْلى مِنهم دَرَجَةً وأكْرَمُ خَلِيقَةً وأحْسَنُ فِعْلًا فَقالَ تَعالى: ﴿غَيْرَكُمْ﴾ أيْ: بَدَلًا مِنكم وهو عَلى غَيْرِ صِفَةِ التَّوَلِّي.
ولَمّا كانَ النّاسُ مُتَقارِبِينَ في الجِبِلّاتِ، وكانَ المالُ مَحْبُوبًا، كانَ مِنَ المُسْتَبْعَدِ جِدًّا أنْ يَكُونَ هَذا البَذْلُ عَلى غَيْرِ ما هم عَلَيْهِ، قالَ تَعالى مُشِيرًا إلى ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّراخِي تَأْكِيدًا لِما أفْهَمَهُ ما قُلْتُهُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِ ”غَيْرَ“ وتَثْبِيتًا [لَهُ]: ﴿ثُمَّ﴾ أيْ: بَعْدَ اسْتِبْعادِ مَن يُسْتَبْعَدُ وعُلُوِّ الهِمَّةِ في مُجاوَزَةِ جَمِيعِ عَقَباتِ النَّفْسِ والشَّيْطانِ: ﴿لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ في التَّوَلِّي عَنْهُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِمّا أمَرَ بِهِ أوْ فِعْلِ شَيْءٍ مِمّا نَهى [عَنْهُ]، ومَن قَدَرَ عَلى الإيجادِ قَدَرَ عَلى الإعْدامِ.
بَلْ هو أهْوَنُ في مَجارِي العاداتِ، فَقَدْ ثَبَتَ [أنَّهُ] سُبْحانَهُ لَوْ شاءَ لانْتَصَرَ مِنَ الكُفّارِ، إمّا بِإهْلاكِهِمْ أوْ إمّا بِناسٍ غَيْرِكم بِضَرْبِ رِقابِهِمْ وأسْرِهِمْ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أمْرِهِمْ، وثَبَتَ بِمُواصَلَةِ ذَمِّ الكُفّارِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ (p-٢٧٢)أنَّهُ أبْطَلَ أعْمالَهُمْ، فَرَجَعَ بِذَلِكَ أوَّلُ السُّورَةِ إلى آخِرِها، وعانَقَ مُوصِلُهُ ما تَرى مِن مُفَصَّلِها، وعُلِمَ أنَّ مَعْنى هَذا الآخَرِ وذَلِكَ الأوَّلِ: أنَّهُ سُبْحانَهُ لا بُدَّ مِن إذْلالِهِ لِلْكافِرِينَ وإعْزازِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّهم إنْ أقْبَلُوا عَلى ما يُرْضِيهِ فَجاهَدُوا نَصَرَهم نَصْرًا عَزِيزًا بِما ضَمِنَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكم ويُثَبِّتْ أقْدامَكُمْ﴾ [محمد: ٧] وإنْ تَتَوَلَّوْا أتى بِقَوْمٍ غَيْرِكم يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ فَيَصْدُقُهم وعْدَهُ، فَصارَ خِذْلانُهم أمْرًا مُتَحَتِّمًا، وهو مَعْنى أوَّلِ سُورَةِ مُحَمَّدٍ. واللَّهُ المُوَفِّقُ لِما يُرِيدُ مِنَ الصَّوابِ.
{"ayah":"هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن یَبۡخَلُۖ وَمَن یَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا یَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِیُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَاۤءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡا۟ یَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُونُوۤا۟ أَمۡثَـٰلَكُم"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











