الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ هَذا المُحْسِنَ بادِئًا بِهِ لِكَوْنِ المَقامِ لِلْإحْسانِ، أتْبَعَهُ المُسِيءَ المُناسِبَ لِمَقْصُودِ السُّورَةِ المَذْكُورِ صَرِيحًا في مَطْلَعِها فَقالَ تَعالى: ﴿والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ﴾ مَعَ اجْتِماعِهِما كافِرًا لِنِعَمِهِما نابِذًا لِوَصِيَّتِنا بِهِما فَكانَ كافِرًا بِنِعْمَةِ أعْظَمِ مُنْعِمٍ مَحْسُوسٍ بَعْدَ الكُفْرِ بِنِعَمِ أعْظَمِ مُنْعِمٍ مُطْلَقًا، والتَّثْنِيَةُ مُشِيرَةٌ إلى أنَّهُ أغْلَظُ النّاسِ كَبِدًا؛ لِأنَّ العادَةَ جَرَتْ بِقَبُولِ الإنْسانِ كَلامَ أصْلِهِ ولَوْ كانَ واحِدًا، وأنَّ الِاجْتِماعَ مُطْلَقًا لَهُ تَأْثِيرٌ فَكَيْفَ إذا كانَ والِدًا: ﴿أُفٍّ﴾ أيْ: تَضَجُّرٌ وتَقَذُّرٌ واسْتِرْذالٌ وتَكَرُّهٌ مِنِّي. ولُغاتُها أرْبَعُونَ - حَكاها في القامُوسِ، المُتَواتِرُ مِنها عَنِ القُرّاءِ ثَلاثٌ: الكَسْرُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ؛ وهو قِراءَةُ الجُمْهُورِ، والمُرادُ بِهِ أنَّ المَعْنى الَّذِي قَصَدَهُ مُقْتَرِنٌ بِسُفُولٍ ثابِتٍ، ومَعَ التَّنْوِينِ وهو قِراءَةُ (p-١٥٣)المَدَنِيِّينَ وحَفْصٍ والمُرادُ بِهِ أنَّهُ سُفُولٌ عَظِيمٌ سائِرٌ مَعَ الدَّهْرِ بِالغَلَبَةِ والقَهْرِ، والفَتْحُ مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ وهو قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وابْنِ عامِرٍ ويَعْقُوبَ، والمُرادُ بِهِ اقْتِرانُ المَعْنى المَقْصُودِ بِالِاشْتِهارِ بِالعُلُوِّ والِانْتِشارِ مَعَ الدَّوامِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في الإسْراءِ عَنِ الحَرالِّيِّ - وهو الحَقُّ - أنَّ التَّأْفِيفَ أنْهى الأذى وأشُدُّهُ، فَإنَّ مَعْناهُ أنَّ المُؤَفَّفَ بِهِ لا خَطَرَ لَهُ ولا وزْنَ أصْلًا، ولا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ بَلْ [هُوَ] عَدَمٌ بَلِ العَدَمُ خَيْرٌ مِنهُ مَعَ أنْهى القَذَرِ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: لِمَن هَذا التَّأْفِيفُ؟ قالَ: ﴿لَكُما﴾ ولَمّا كانا كَأنَّهُما قالا لَهُ: لِمَ هَذا التَّقْذِيرُ العَظِيمُ بَعْدَ الإحْسانِ لا تَقْدِرُ عَلى جَزائِنا بِهِ، قالَ مُبَكِّتًا مُوَبِّخًا مُنْكِرًا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ وعْدًا: ﴿أتَعِدانِنِي﴾ أيْ: عَلى سَبِيلِ الِاسْتِمْرارِ بِالتَّجْدِيدِ في كُلِّ وقْتٍ ﴿أنْ أُخْرَجَ﴾ [أيْ] مِن مَخْرَجٍ ما يُخْرِجُنِي مِنَ الأرْضِ بَعْدَ أنْ غِبْتُ فِيها وصِرْتُ تُرابًا أُحْيا كَما كُنْتُ أوَّلَ مَرَّةٍ ﴿وقَدْ﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُ قَدْ ﴿خَلَتِ﴾ أيْ: تَقَدَّمَتْ وسَبَقَتْ ومَضَتْ عَلى (p-١٥٤)سُنَنِ المَوْتِ ﴿القُرُونُ﴾ أيِ: الأجْيالُ الكَثِيرَةُ مِن صَلابَتِهِمْ، وأثْبَتَ الجارَّ لِأنَّ القَرْنَ لا يَنْخَرِمُ إلّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فالِانْخِرامُ في ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ لِلزَّمانِ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلِي﴾ أيْ: قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وأُمَّةٍ بَعْدَ أُمَّةٍ وتَطاوَلَتِ الأزْمانُ وأغْلَبُهم يُكَذِّبُ بِهَذا الحَدِيثِ فَأنا مَعَ الأغْلَبِ، وتَأيَّدَ ذَلِكَ بِأنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ أحَدٌ مِنهم ﴿وهُما﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُما كُلَّما قالَ لَهُما ذَلِكَ ﴿يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ﴾ أيْ: يَطْلُبانِ بِدُعائِهِما مَن لَهُ جَمِيعُ الكَمالِ أنْ يُعِينَهُما بِإلْهامِهِ قَبُولَ كَلامِهِما، قائِلَيْنِ لِوَلَدِهِما مُجْتَهِدَيْنِ بِالنَّصِيحَةِ لَهُ بَعْدَ الِاجْتِهادِ بِالدُّعاءِ: ﴿ويْلَكَ﴾ كَما يَقُولُ المُشْفِقُ إذا زادَ بِهِ الكَرْبُ وبَلَغَ مِنهُ الغَمُّ، إشارَةً إلى أنَّهُ لَمْ يَبْقَ [لَهُ] إنْ أعْرَضَ إلّا الوَيْلُ وهو الهَلاكُ ﴿آمِن﴾ أيْ: أوْقِعِ الإيمانَ الَّذِي لا إيمانَ غَيْرُهُ، وهو الَّذِي يُنْقِذُ مِن كُلِّ هَلَكَةٍ، ويُوجِبُ كُلَّ فَوْزٍ بِالتَّصْدِيقِ بِالبَعْثِ وبِكُلِّ ما جاءَ عَنِ اللَّهِ، ثُمَّ عَلَّلا أمْرَهُما عَلى هَذا الوَجْهِ مُؤَكِّدِينَ في مُقابَلَةِ إنْكارِهِ فَقالا: ﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ﴾ أيِ: المَلِكِ الأعْظَمِ المُحِيطِ بِجَمِيعِ صِفاتِ المَهابَةِ والكَمالِ المَوْصُوفِ بِالعِزَّةِ والحِكْمَةِ ﴿حَقٌّ﴾ أيْ: ثابِتٌ أعْظَمَ ثَباتٍ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَكانَ نَقْصًا مِن جِهَةِ الإخْلافِ الَّذِي لا يَرْضاهُ لِنَفْسِهِ أقَلُّ العَرَبِ فَكَيْفَ وهو يَلْزَمُ مِنهُ مُنافاةُ الحِكْمَةِ بِكَوْنِ (p-١٥٥)الخَلْقِ حِينَئِذٍ عَلى وجْهِ العَبَثِ لِأنَّهم عِبادٌ ورَعايا لا يُعْرَضُونَ عَلى مَلِكِهِمُ الَّذِي أبْدَعَهم مَعَ عِلْمِهِ بِما هم عَلَيْهِ مِن ظُلْمِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ ﴿فَيَقُولُ﴾ مُسَبِّبًا عَنْ قَوْلِهِما ومُعَقِّبًا لَهُ: ﴿ما هَذا﴾ أيِ: الَّذِي ذَكَرْتُماهُ لِي مِنَ البَعْثِ ﴿إلا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ أيْ: خُرافاتٌ كَتَبَها عَلى وجْهِ الكَذِبِ الأوائِلُ وتَناقَلَها مِنهُمُ الأعْمارُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ فَصارَتْ بِحَيْثُ يَظُنُّ الضُّعَفاءُ أنَّها صَحِيحَةٌ - هَذا والعَجَبُ كُلُّ العَجَبِ أنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ لا يَلْزَمُهُ فَسادٌ عَلى تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقادِيرِ المُمْكِنَةِ، بَلْ يَحْمِلُهُ التَّصْدِيقُ عَلى مَحاسِنِ الأعْمالِ ومَعالِي الأخْلاقِ الَّتِي هو مُقِرٌّ بِأنَّها مَحاسِنُ مِن لُزُومِ طَرِيقِ الخَيْرِ وتَرْكِ طَرِيقِ الشَّرِّ، وتَكْذِيبِهِ يَجُرُّهُ إلى المَرَحِ والأشَرِ، والبَطَرِ وأفْعالِ الشَّرِّ، ودَنايا الأخْلاقِ مَعَ احْتِمالِ الهَلاكِ الَّذِي يُخَوِّفانِهِ بِهِ وهو لا يَنْفِي أنَّهُ مُحْتَمَلٌ وإنِ اسْتَبْعَدَهُ فَما دَعَوْهُ إلَيْهِ كَما تَرى لا يَأْباهُ عاقِلٌ ولَكِنَّها عُقُولٌ كادَها بارِيها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب