الباحث القرآني

ولَمّا أنْكَرَ التَّسْوِيَةَ وذَمَّهم عَلى الحُكْمِ بِها، أتْبَعَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ القَطْعِيَّ عَلى أنَّ الفَرِيقَيْنِ لا يَسْتَوِيانِ وإلّا لَما كانَ الخالِقُ لِهَذا الوُجُودِ عَزِيزًا ولا حَكِيمًا، فَقالَ دالًّا عَلى إنْكارِ التَّسْوِيَةِ وسُوءِ حُكْمِهِمْ بِها، عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ النّاسَ كُلَّهم بِالحَقِّ وهو الأمْرُ الثّابِتُ الَّذِي يُطابِقُهُ الواقِعُ، وهو ثَباتُ أعْمالِ المُحْسِنِينَ وبُطْلانُ أفْعالِ المُسِيئِينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وخَلَقَ اللَّهُ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ أوْصافِ الكَمالِ ولا يَصِحُّ ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يَلْحَقَهُ نَوْعُ نَقْصٍ ﴿السَّماواتِ والأرْضَ﴾ اللَّتَيْنِ هُما ظَرْفٌ لَكم وابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْبِيهِ عَلى آياتِهِما، خَلْقًا مُلْتَبِسًا ﴿بِالحَقِّ﴾ فَلا يُطابِقُ الواقِعُ فِيهِما [أبَدًا] شَيْئًا باطِلًا، (p-٩٢)فَمَتى وُجِدَ سَبَبُ الشَّيْءِ وانْتَفى مانِعُهُ وُجِدَ، ومَتى وُجِدَ مانِعُ الشَّيْءِ وانْتَفى سَبَبُهُ انْتَفى، لا يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ أصْلًا، ولِذَلِكَ جُمْلَةُ ما وقَعَ مِن خَلْقِهِما طابَقَهُ الواقِعُ الَّذِي هو قُدْرَةُ اللَّهِ وعِلْمُهُ وحِكْمَتُهُ وجَمِيعُ ما لَهُ مِن صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي دَلَّ خَلْقُهُما عَلَيْها، فَإذا كانَ الظَّرْفُ عَلى هَذا الإحْكامِ فَما الظَّنُّ بِالمَظْرُوفِ الَّذِي ما خُلِقَ الظَّرْفُ إلّا مِن أجْلِهِ، هَلْ يُمْكِنُ في الحِكْمَةِ أنْ يَكُونَ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الواقِعُ الَّذِي هو تَفْضِيلُ المُحْسِنِ عَلى المُسِيءِ غَيْرَ مُطابِقٍ لِأحْوالِهِمْ، ومِن جُمْلَةِ المَظْرُوفِ ما بَيْنَهُما فَلِذا لَمْ يُذْكَرْ هُنا، ولَوْ [كانَ] ذَلِكَ مِن غَيْرِ بَعْثٍ ومُجازاةٍ بِحَسْبِ الأعْمالِ لَما كانَ هَذا الخَلْقُ العَظِيمُ بِالحَقِّ بَلْ بِالباطِلِ الَّذِي تَعالى عَنْهُ الحَكِيمُ فَكَيْفَ وهو أحْكَمُ الحاكِمِينَ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: لِيَكُونَ كُلُّ مُسَبَّبٍ مُطابِقًا لِأسْبابِهِ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ولِتُجْزى﴾ [بِأيْسَرِ أمْرٍ] ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ أيْ: مِنكم ومِن غَيْرِكم ﴿بِما﴾ أيْ: بِسَبَبِ الأمْرِ الَّذِي. ولَمّا كانَ السِّياقُ لِلْعُمُومِ، وكانَ المُؤْمِنُ لا يُجْزى إلّا بِما عَمِلَهُ عَلى عَمْدٍ مِنهُ وقَصْدٍ لِيُكْتُبَ في أعْمالِهِ، (p-٩٣)[عَبَّرَ] بِالكَسْبِ الَّذِي هو أخَصُّ مِنَ العَمَلِ فَقالَ: ﴿كَسَبَتْ﴾ أيْ: كَسْبُها مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، فَيَكُونُ ما وقَعَ الوَعْدُ بِهِ مُطابِقًا لِكَسْبِها ﴿وهُمْ﴾ أيْ: والحالُ أنَّهم ﴿لا يُظْلَمُونَ﴾ أيْ: لا يُوجَدُ مِن مُوجِدٍ ما في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ جَزاءٌ لَهم في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وهَذا [عَلى] ما جَرَتْ بِهِ عَوائِدُكم في العَدْلِ والفَضْلِ، ولَوْ وُجِدَ مِنهُ سُبْحانَهُ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا مِنهُ لِأنَّهُ المالِكُ المُطْلَقُ والمَلِكُ الأعْظَمُ، فَلَوْ عَذَّبَ أهْلَ سَماواتِهِ وأهْلَ أرْضِهِ كُلَّهم لَكانَ غَيْرَ ظالِمٍ لَهم في نَفْسِ الأمْرِ، فَهَذا الخِطابُ إنَّما هو عَلى ما نَتَعارَفُهُ مِن إقامَةِ الحُجَّةِ بِمُخالَفَةِ الأمْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب