الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَ أوَّلَ السُّورَةِ تَبْكِيتُهم والتَّعْجِيبُ مِنهم في ادِّعائِهِمْ لِلَّهِ ولَدًا مِنَ المَلائِكَةِ وهَدَّدَهم بِقَوْلِهِ ﴿سَتُكْتَبُ شَهادَتُهم ويُسْألُونَ﴾ [الزخرف: ١٩] وذَكَرَ شَبَهَهم في قَوْلِهِمْ ﴿لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠] وجَهْلَهم فِيها بِقَوْلِهِ ﴿ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ﴾ [الزخرف: ٢٠] ونَفى أنْ يَكُونَ لَهم عَلى ذَلِكَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ بِقَوْلِهِ مُنْكِرًا مُوَبِّخًا ﴿أمْ آتَيْناهم كِتابًا﴾ [الزخرف: ٢١] ومَرَّ في تَوْهِيَةِ أمْرِهِمْ في ذَلِكَ وغَيْرِهِ بِما لاحَمَ بَعْضُهُ بَعْضًا عَلى ما تَقَدَّمَ إلى ما تَمَّمَ نَفْيَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلى طَرِيقِ النَّشْرِ المُشَوَّشِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا﴾ [الزخرف: ٤٥] ونَظَّمَ بِهِ ما أتى بِهِ رَسُولُهُ أهْلَ الكِتابِ مِمّا يُصَدِّقُ ما أتى بِهِ كِتابُنا مِنَ التَّوْحِيدِ وما هَدَّدَ بِهِ مِن أعْراضٍ عَنْهُ إلى أنْ أخْبَرَ أنَّهُ الحَقُّ الَّذِي لا زَوالَ أصْلًا لِشَيْءٍ مِنهُ، وأنَّ رُسُلَهُ سُبْحانَهُ تَكْتُبُ جَمِيعَ أعْمالِهِمْ مِن شَهادَتِهِمْ في المَلائِكَةِ وغَيْرِها، أعادَ الكَلامَ في إبْطالِ شُبْهَتِهِمْ في أنَّ عِبادَتَهم لَهم لَوْ كانَتْ مَمْنُوعَةً لَمْ يَشَأْها الَّذِي لَهُ عُمُومُ الرَّحْمَةِ لَأنَّ عُمُومَ رَحْمَتِهِ يَمْنَعُ عَلى زَعْمِهِمْ مَشِيئَةَ ما هو مُحَرَّمٌ، فَقالَ بَعْدَ أنْ نَفى قَوْلَهُ ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا﴾ [الزخرف: ٤٥] أنْ يَكُونَ لَهم (p-٤٨٨)دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلى أحَدٍ مِن رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿قُلْ إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ﴾ أيِ العامُّ الرَّحْمَةِ ﴿ولَدٌ﴾ عَلى ما زَعَمْتُمْ، والمُرادُ بِهِ الجِنْسُ لِادِّعائِهِمْ في المَلائِكَةِ، وغَيْرِهِمْ في غَيْرِهِمْ، وقِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ عَلى أنَّهُ جَمَعَ عَلى إرادَةِ الكَثْرَةِ. ولَمّا كانَ المَعْنى: فَأنا ما عَبَدْتُ ذَلِكَ الوَلَدَ ولا أعْبُدُهُ، ولَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما تَرَكْتُ عِبادَتَهُ، ولَكِنَّهُ شاءَ تَرْكِي لَها وشاءَ فِعْلَكم لَها، فَإحْداهُما قَطْعًا مَشِيئَةٌ لِلْباطِلِ، وإلّا لاجْتَمَعَ النَّقِيضانِ بِأنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَقًّا باطِلًا في حالٍ واحِدٍ مِن وجْهٍ واحِدٍ، وهو بَدِيهِيُّ الِاسْتِحالَةِ، فَبَطَلَتْ شُبْهَتُكم بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ - هَكَذا كانَ الأصْلُ، ولَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إلى ما يُفِيدُ مَعْناهُ وزِيادَةُ أنَّهُ يَعْبُدُ اللهَ مُخْلِصًا ولا يَعْبُدُ غَيْرَهُ، أنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ اسْمَ العِبادَةِ إلّا ما كانَ لَهُ خالِصًا، فَقالَ: ﴿فَأنا﴾ أيْ في الرُّتْبَةِ ﴿أوَّلُ العابِدِينَ﴾ لِلرَّحْمَنِ، العِبادَةُ الَّتِي هي العِبادَةُ ولا يَسْتَحِقُّ غَيْرَها أنْ يُسَمّى عِبادَةً وهي الخالِصَةُ، أيْ فَأنا لا أعْبُدُ غَيْرَهُ لا ولَدًا ولا غَيْرَهُ، ولَمْ يَشَأِ الرَّحْمَنُ لِي أنْ أعْبُدَ الوَلَدَ، أوْ يَكُونَ المَعْنى: أنا أوَّلُ العابِدِينَ لِلرَّحْمَنِ عَلى وجْهِ الإخْلاصِ، لَمْ أُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا أصْلًا في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ مِمّا سَمَّيْتُمُوهُ ولَدًا أوْ شَرِيكًا أوْ غَيْرَهُ، ولَوْ شاءَ ما عَبَدْتُهُ عَلى وجْهِ الإخْلاصِ، ولا شَكَّ عِنْدِكم وعِنْدَ غَيْرِكم أنَّ مَن أخْلَصَ لِأحَدٍ كانَ أوْلى مَن غَيْرِهِ بِرَحْمَةٍ، فَلَوْ أنَّ الإخْلاصَ (p-٤٨٩)لَهُ مَمْنُوعٌ ما شاءَ لِي، ولَوْلا أنَّ عِبادَةَ غَيْرِهِ مَمْنُوعَةٌ لَشاءَها لِي، ولَوْ أنَّ لَهُ ولَدًا لَشاءَ لِي عِبادَتِهُ، فَإنَّ عُمُومَ رَحْمَتِهِ لِكافَّةِ خَلْقِهِ لِكَوْنِهِمْ خَلْقَهُ وخُصُوصُها بِي لِكَوْنِي عَبْدُهُ خالِصًا لَهُ يَمْنَعُ عَلى زَعْمِكم مِن أنْ يُشْقِينِي وأنا أُخْلِصُ لَهُ، فَبَطَلَتْ شُبْهَتُكم بِمِثْلِها بَلْ أقْوى مِنها، وهَذا مِمّا عَلَّقَ بِشَيْءٍ هو بِنَقِيضِهِ أوْلى، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ ”أنْ“ نافِيَةٌ بِمَعْنى: ما يَنْبَغِي أيْ ما كانَ لَهُ ولَدٌ، فَإنِّي أوَّلُ مَن عَبَدَهُ رُتْبَةً وما عَلِمْتُ لَهُ ولَدًا، ولَوْ كانَ لَهُ ولَدٌ لَعَلِمْتُهُ فَعَبَدْتُهُ تَقَرُّبًا إلَيْهِ بِعِبادَةِ ولَدِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب