الباحث القرآني

ولَمّا كانَ رُبَّما ظَنَّ أنَّ المَحْذُورَ إنَّما هو جَعْلُهم عَلَيْهِمُ السَّلامُ إناثًا بِقَيْدِ النِّسْبَةِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، نَبَّهَ عَلى أنَّ ذَلِكَ قَبِيحٌ في نَفْسِهِ مُطْلَقًا لِدَلالَتِهِ عَلى احْتِقارِهِمْ وانْتِقاصِهِمْ فَهو كَفْرٌ ثالِثٌ إلى الكُفْرَيْنِ قَبْلَهُ: نِسْبَةُ الوَلَدِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ ثُمَّ جَعَلَ أخَصَّ النَّوْعَيْنِ، فَقالَ: ﴿وجَعَلُوا﴾ أيْ مُجْتَرِئِينَ عَلى ما لا يَنْبَغِي لِعاقِلٍ فِعْلَهُ ﴿المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ﴾ مُتَّصِفُونَ بِأشْرَفِ الأوْصافِ أنَّهم ﴿عِبادُ الرَّحْمَنِ﴾ العامَّةُ النِّعْمَةُ الَّذِي خَلَقَهم فَهم بَعْضُ مَن يَتَعَبَّدُ لَهُ وهم عِبادُهُ وحَقِيقَةٌ لِأنَّهم ما عَصَوْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَهم أهْلٌ لِأنْ يَكُونُوا عَلى أكْمَلِ الأحْوالِ، وقِراءَةُ ”عِنْدَ“ بِالنُّونِ شَدِيدَةِ المُناداةِ عَلَيْهِمْ بِالسَّفَهِ، وذَلِكَ أنَّ أهْلَ حَضْرَةِ المَلِكِ الَّذِينَ يَصْرِفُهم في المُهِمّاتِ لا يَكُونُونَ إلّا عَلى أكْمَلِ الأحْوالِ وعِنْدِيَّتُهُ أنَّهم لَمْ يَعْصُوهُ قَطُّ وهم مَحَلٌّ مُقَدَّسٌ عَنِ المَعاصِي مُشْرِفٌ بِالطّاعاتِ وأهْلِ الِاصْطِفاءِ، (p-٤٠٤)وذِكْرُ المَفْعُولِ الثّانِي لِلْجَعْلِ الَّذِي بِمَعْنى التَّعْبِيرِ الِاعْتِقادِيِّ والقَوْلِ فَقالَ: ﴿إناثًا﴾ وذَلِكَ أدْنى الأوْصافِ خَلْقًا وذاتًا وصِفَةً، ثُمَّ دَلَّ عَلى كَذِبِهِمْ في هَذا المُطْلَقِ لِيَدُلَّ عَلى كَذِبِهِمْ في المُقَيَّدِ مِن بابِ الأوْلى فَقالَ تَهَكُّمًا بِهِمْ وتَوْبِيخًا لَهم وإنْكارًا عَلَيْهِمْ إظْهارًا لِفَسادِ عُقُولِهِمْ بِأنَّ دَعاوِيهِمْ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الأدِلَّةِ: ﴿أشَهِدُوا﴾ أيْ حَضَرُوا حُضُورًا هم فِيهِ عَلى تَمامِ الخِبْرَةِ ظاهِرًا وباطِنًا - هَذا هو مَعْنى قِراءَةِ الجَماعَةِ، وأدْخَلَ نافِعٌ هَمْزَةَ التَّوْبِيخِ عَلى أُخْرى مَضْمُومَةً بِناءُ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ تَنْبِيهًا عَلى عَجْزِهِمْ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ إلّا بِمَن يُشْهِدُهم إيّاهُ، وهو الخالِقُ لا غَيْرُهُ، ومَدُّها في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ زِيادَةً في المادَّةِ عَلَيْهِمْ بِالفَضِيحَةِ، وسَهَّلَ الثّانِيَةَ بَيْنَها وبَيْنَ الواوِ إشارَةً إلى انْحِطاطِ أمْرِهِمْ وسُفُولِ آرائِهِمْ وأفْعالِهِمْ، وجَمِيعُ تَقَلُّباتِهِمْ وأحْوالِهِمْ كَما سَيَكْشِفُ عَنْهُ الزَّمانُ ونَوازِلُ الحَدَثانِ ﴿خَلْقَهُمْ﴾ أيْ مَطْلَبُ الخَلْقِ في أصْلِهِ أوْ عِنْدَ الوِلادَةِ أوْ بَعْدَها عَلى حالٍ مِنَ الأحْوالِ حُضُورًا أوْجَبَ لَهم تَحَقُّقَ ما قالُوا بِأنْ لَمْ يَغِيبُوا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ أعَمُّ مِن أنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّهادَةُ حِسِّيَّةً بِنَظَرِ العَيْنِ أوْ مَعْنَوِيَّةً بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أوِ اسْتِدْلالِيٍّ بِعَقْلٍ أوْ سَمْعٍ. ولَمّا كانَ الجَوابُ قَطْعًا: لا، قالَ مُهَدِّدًا لَهم مُؤَكِّدًا لِتَهْدِيدِهِمْ (p-٤٠٥)بِالسِّينِ لِظَنِّهِمْ أنْ لا بَعْثَ ولا حِسابَ ولا حَشْرَ ولا نَشْرَ فَقالَ: ﴿سَتُكْتَبُ﴾ بِكِتابَةِ مَن وكَّلْناهم بِهِمْ مِنَ الحَفَظَةِ الَّذِينَ لا يَعْصُونَنا فَنَحْنُ نُقَدِّرُهم عَلى جَمِيعِ ما نَأْمُرُهم بِهِ - هَذا عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ بِالتّاءِ والبِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وعِظَمِ الكِتابَةِ تَفْخِيمًا لِلْوَعِيدِ وإكْبارًا لِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّهْدِيدِ في قِراءَةِ النُّونِ المُفِيدَةِ لِلْعَظَمَةِ والبِناءِ لِلْفاعِلِ ونَصَبَ الشَّهادَةَ ﴿شَهادَتُهُمْ﴾ أيْ قَوْلِهِمْ فِيهِمْ أنَّهم إناثٌ الَّذِي لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ إلّا بَعْدَ تَمامِ المُشاهَدَةِ، فَهو قَوْلٌ رَكِيكٌ سَخِيفٌ ضَعِيفٌ - بِما أشارَ إلَيْهِ التَّأْنِيثُ في قِراءَةِ الجَماعَةِ ﴿ويُسْألُونَ﴾ عَنْها عِنْدَ الرُّجُوعِ إلَيْنا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في السِّينِ اسْتِعْطافُ إلى التَّوْبَةِ قَبْلَ كِتابَةٍ ولا عِلْمٍ لَهم بِهِ، فَإنَّهُ قَدْ رَوى أبُو أُمامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «كاتِبُ الحَسَناتِ عَلى يَمِينِ الرَّجُلِ وكاتِبُ السَّيِّئاتِ عَلى يَسارِ الرَّجُلِ، وكاتِبُ الحَسَناتِ أمِينٌ عَلى كاتِبِ السَّيِّئاتِ، فَإذا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَها صاحِبُ اليَمِينِ عَشْرًا، وإذا عَمِلَ سَيِّئَةً قالَ صاحِبُ اليَمِينِ لِصاحِبِ الشِّمالِ: دَعْهُ سَبْعَ ساعاتٍ، لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ اللهَ أوْ يَسْتَغْفِرُ» رَواهُ الشَّعْبِيُّ والبَغَوِيُّ مِن طَرِيقِهِ والطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ مِن طَرِيقِ جَعْفَرٍ عَنِ القاسِمِ عَنْ أبِي أُمامَةَ والبَيْهَقِيِّ مِن رِوايَةِ بِشْرِ بْنِ نَمِيرٍ عَنِ القاسِمِ نَحْوُهُ وأبُو نَعِيمٍ في الحِلْيَةِ وابْنِ مَرْدُويَهْ (p-٤٠٦)مِن طَرِيقِ إسْماعِيلَ بْنِ عَيّاشٍ عَنْ عاصِمِ بْنِ رَجاءٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمَ عَنِ القاسِمِ عَنْ أبِي أُمامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ورَوى الحاكِمُ وقالَ: صَحِيحُ الإسْنادِ عَنْ أُمِّ عِصْمَةَ العُوصِيَّةَ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْها قالَ: «ما مِن مُسْلِمٍ يَعْمَلُ ذَنْبًا إلّا وقَفَ المَلِكُ ثَلاثَ ساعاتٍ، فَإنِ اسْتَغْفَرَ مِن ذَنْبِهِ لَمْ يُوقِعْهُ عَلَيْهِ ولَمْ يُعَذَّبْ يَوْمَ القِيامَةِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب