الباحث القرآني
ولَمّا تَمَّ القَسَمُ الأوَّلُ مِمّا بَنى عَلى العِلْمِ والقُدْرَةِ، والقُدْرَةُ فِيهِ أظْهَرُ وِفاقًا لِما خُتِمَتْ بِهِ الآيَةُ، وكانَ قَدْ يَكُونُ خَلْقُهُ إيّاهُ إبْداعًا مِن غَيْرِ تَوَسُّطِ سَبَبٍ، وقَدْ يَكُونُ بِتَوْسِيطِ سَبَبٍ، أتْبَعَهُ القَسَمُ الآخَرُ الأعْلى الَّذِي العِلْمُ فِيهِ أظْهَرُ وهو الوَحْيُ الَّذِي خُتِمَتْ آيَتُهُ أوَّلَ السُّورَةِ بِالحِكْمَةِ الَّتِي هي سِرُّ العِلْمِ وقَسَمُهُ أيْضًا إلى ما هو بِواسِطَةٍ وإلى ما هو بِغَيْرِ واسِطَةٍ ولَكِنْ سِرَّ التَّقْدِيرِ في القَسَمِ الأوَّلِ الكَلامِ وهو الَّذِي شَرُفَ بِهِ وكانَ لا يُمْكِنُ أحَدٌ أنْ يَتَكَلَّمَ إلّا بِتَكْلِيمِ اللهِ لَهُ أيْ إيجادُهُ الكَلامَ في قَلْبِهِ قالَ: ﴿وما﴾ أيْ وهو سُبْحانَهُ تامُّ العِلْمِ شامِلُ القُدْرَةِ غَرَزَ في البَشَرِ غَرِيزَةَ العِلْمِ وأقْدَرَهُ عَلى النُّطْقِ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وحْيًا مِنهُ إلَيْهِ كَما أوْحى إلى النَّحْلِ ونَحْوِها والحالُ أنَّهُ ما ﴿كانَ لِبَشَرٍ﴾ مِنَ الأقْسامِ المَذْكُورَةِ، وحَلَّ المَصْدَرَ الَّذِي هو اسْمُ ”كانَ“ لِيَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالفاعِلِ والمَفْعُولِ عَلى أتَمِّ وُجُوهِهِ فَقالَ: ﴿أنْ يُكَلِّمَهُ﴾ (p-٣٥٨)وأظْهَرَ مَوْضِعَ الإضْمارِ إعْظامًا لِلْوَحْيِ وتَشْرِيفًا لِمِقْدارِهِ بِجَلالَةِ إيثارِهِ فَقالَ: ﴿اللَّهُ﴾ أيْ يُوجَدُ المَلِكُ الأعْظَمُ الجامِعُ لِصِفاتِ الكَمالِ في قَلْبِهِ كَلامًا ﴿إلا وحْيًا﴾ أيْ كَلامًا خَفِيًّا يُوجِدُهُ فِيهِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ بِوَجْهٍ خَفِيٍّ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أحَدٌ إلّا بِخارِقِ العادَةِ إمّا بِإلْهامٍ أوْ بِرُؤْيا مَنامٍ أوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ سَواءٌ خَلَقَ اللهُ في المُكَلِّمِ بِهِ قُوَّةَ السَّماعِ لَهُ وهو أشْرَفُ هَذِهِ الأقْسامِ مُطْلَقًا سَواءٌ كانَ ذَلِكَ مَعَ الرُّؤْيَةِ لِيَكُونَ قَسِيمًا لِما بَعْدَهُ أوَّلًا أوْ يَخْلُقُ فِيهِ ذَلِكَ ومِن هَذا القَسَمِ الأخِيرِ ﴿وأوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى﴾ [القصص: ٧] ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨] ﴿وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها﴾ [فصلت: ١٢] فَإنَّ إيداعَها القُوى الَّتِي يَحْصُلُ بِها المَنافِعُ مِثْلَ إيداعِ الإنْسانِ قُوَّةَ الكَلامِ ثُمَّ قُوَّةَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ - واللهُ أعْلَمُ. وهَذا مَعْنى قَوْلِ القاضِي عِياضٍ في الشِّفاءِ في آخِرِ الفَصْلِ الثّانِي مِنَ البابِ الرّابِعِ في الإعْجازِ: وقَدْ قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وحْيًا﴾ الآيَةُ أيْ ما يُلْقِيهِ في قَلْبِهِ دُونَ واسِطَةٍ، ومَعْنى قَوْلِ الإمامِ شِهابِ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيِّ في البابِ السّادِسِ والعِشْرِينَ مِن عَوارِفِهِ: والعُلُومِ اللَّدُنْيَّةِ (p-٣٥٩)فِي قُلُوبِ المُنْقَطِعِينَ إلى اللهِ ضَرْبٌ مِنَ المُكالَمَةِ.
ولَمّا كانَ الحِجابُ الحِسِّيُّ يُخْفِي ما وراءَهُ عَنِ العِيانِ، اسْتُعِيرَ لِمُطْلَقِ الخَفاءِ فَقالَ: ﴿أوْ مِن﴾ أيْ كَلامًا كائِنًا بِلا واسِطَةٍ، لَكِنَّهُ مَعَ السَّماعِ لَعِينِ كَلامِ اللهِ كائِنٌ صاحِبَهُ مِن ﴿وراءِ حِجابٍ﴾ أيْ مِن وجْهٍ لا يُرى فِيهِ المُتَكَلِّمُ مَعَ السَّماعِ لِلْكَلامِ عَلى وجْهِ الجَهْرِ، قالَ القُشَيْرِيُّ: والمَحْجُوبُ العَبْدُ لا الرَّبُّ، والحِجابُ أنْ يَخْلُقَ في مَحَلِّ الرُّؤْيَةِ ضِدُّ الرُّؤْيَةِ، وتَعالى اللهُ أنْ يَكُونَ مِن وراءِ حِجابٍ لِأنَّ ذَلِكَ صِفَةُ الأجْسامِ - انْتَهى.
والآيَةُ يُمْكِنُ تَنْزِيلُها عَلى الِاحْتِباكِ بِأنْ يَكُونَ ذِكْرُ الحِجابِ ثانِيًا دَلِيلًا عَلى نَفْيِهِ أوَّلًا، وذِكْرُ الوَحْيِ الدّالِّ عَلى الخَفاءِ أوَّلًا دَلِيلًا عَلى الجَهْرِ ثانِيًا، والحِجابُ ثانِيًا دَلِيلًا عَلى الرُّؤْيَةِ أوَّلًا، وسِرُّهُ أنْ تَرْكَ التَّصْرِيحِ والدَّلالَةِ عَلَيْها بِالحِجابِ أوْلى بِسِياقِ العَظَمَةِ.
ولَمّا كانَ الَّذِي بَلا واسِطَةٍ مَعَ كَوْنِهِ أخْفى الأقْسامِ لَيْسَ فِيهِ صَوْتٌ ولا تَرَتَّبَ في كَلِماتٍ، عَبَّرَ فِيهِ بِالمَصْدَرِ وعَبَّرَ بِما يُلْقِيهِ المَلِكُ بِما يَدُلُّ عَلى التَّجَدُّدِ فَقالَ: ﴿أوْ يُرْسِلَ﴾ وهو عَطْفٌ عَلى المَصْدَرِ بَعْدَ تَقْدِيرِ حَلِّهِ ﴿رَسُولا﴾ أيْ مِنَ المَلائِكَةِ. ولَمّا كانَ الوَحْيُ مُسَبِّبًا (p-٣٦٠)عَنِ الإرْسالِ ومُرَتِّبًا عَلَيْهِ قالَ: ﴿فَيُوحِيَ﴾ أيْ عَلى سَبِيلِ التَّجْدِيدِ والتَّرْتِيبِ، وقَرَأ نافِعٌ بِرَفْعٍ يُرْسِلُ ويُوحِي بِتَقْدِيرِ: أوْ هو يُرْسِلُ. ولَمّا كانَ رُبَّما ظَنَّ أنَّ لِلْواسِطَةِ فِعْلًا يَخْرُجُ عَنْ فِعْلِهِ، رَدَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿بِإذْنِهِ﴾ أيْ بِإقْدارِهِ وتَمْكِينِهِ، فَذَلِكَ المَبْلَغُ إنَّما هو آلَةٌ. ولَمّا كانَ رَسُولُهُ لا يَخْرُجُ عَمّا حَدَّهُ لَهُ بِوَجْهٍ قالَ: ﴿ما يَشاءُ﴾ أيْ لا يَتَعَدّى مُرادَهُ وإقْدارَهُ أصْلًا فَهو المُكَلِّمُ في الحَقِيقَةِ وقَدْ بانَ أنَّها ثَلاثَةُ أقْسامٍ: أوَّلُها فِيهِ قَسَمانِ، خُصَّ الأوَّلُ بِقَسَمَيْهِ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ الوَحْيِ لِأنَّهُ كَما مَرَّ أخْفاها وهو أيْضًا يَقَعُ دُفْعَةً، والوَحْيُ يَدُورُ مَعْناهُ عَلى الخَفاءِ والسُّرْعَةِ.
ولَمّا كانَتِ الأقْسامُ دالَّةً عَلى العَظَمَةِ الباهِرَةِ، وكانَتْ لِلرُّوحِ البَدَنِيِّ لِأنَّ رُوحُ الوَحْيِ يُكْسِبُ الرُّوحَ البَدَنِيَّ حَياةَ العِلْمِ كَما أفادَ الرُّوحُ البَدَنَ حَياةَ الحَرَكَةِ بِالإرادَةِ والحِسِّ، كانَتِ النَّتِيجَةُ مُؤَكَّدَةٌ لِتَضَمُّنِ طَعْنِهِمْ في الرَّسُولِ والقُرْآنِ والتَّوْحِيدِ طَعْنِهِمْ في مَضْمُونِ الجُمْلَةِ: ﴿إنَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ هَذا التَّصَرُّفُ العَظِيمُ في هَذا الوَحْيِ الكَرِيمِ ﴿عَلِيٌّ﴾ أيْ بالِغُ العُلُوِّ حَدًّا مِمّا لا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الأوْصافِ وبِما يَكُونُ لِلْخَلْقِ عَنْ جَنابِهِ مِنَ السُّفُولِ بِما عَلَيْهِمْ مِنَ الحَجْبِ فَلا يَلْبَسُ شَيْءٌ مِمّا يُعَبِّرُ (p-٣٦١)بِهِ تَقْرِيبًا لِلْعُقُولِ فَيَحْمِلُ عَلى ما يُوهِمُ نَقْصًا، فَإنَّ المَجازاتِ في لِسانِ العَرَبِ شَهِيرَةٌ ﴿حَكِيمٌ﴾ يُتْقِنُ ما يَفْعَلُهُ إتْقانًا لا تُحِيطُ العُقُولُ بِإدْراكِهِ فَيَسْكُنُ رُوحُ العِلْمِ الَّذِي هو مِن ألْطَفِ أسْرارِهِ في رُوحِ البَدَنِ المُدَبِّرِ لَهُ فَيَكُونُ سِرًّا في سِرٍّ كَما كانَ بِرًّا بَعْدَ بِرٍّ، ويَجْعَلُ ذَلِكَ تارَةً بِواسِطَةٍ وتارَةً بِغَيْرِ واسِطَةٍ عَلى حَسَبِ ما يَقْتَضِيهِ الحالُ، ويُعَبِّرُ عَنْ كُلِّ مَعْنًى بِما يَقْتَضِيهِ حالُهُ في ذَلِكَ السِّياقِ، ومَهْما أوْهَمَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ نَقْصًا فَرَدَّ المُسْتَبْصِرَ إلى المُحْكَمِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ عَلى ما يَقْتَضِيهِ الشّائِعُ مِنَ اسْتِعْمالاتٍ رَجَعَ رُجُوعًا بَيِّنًا مُتْقَنًا بِحَيْثُ يَصِيرُ في غايَةِ الجَلاءِ.
{"ayah":"۞ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡیًا أَوۡ مِن وَرَاۤىِٕ حِجَابٍ أَوۡ یُرۡسِلَ رَسُولࣰا فَیُوحِیَ بِإِذۡنِهِۦ مَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ عَلِیٌّ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق