الباحث القرآني
ولَمّا أنْهى ما قَدَّمَهُ في قَوْلِهِ ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ﴾ [الشورى: ١٣] نِهايَتُهُ، ودَلَّ عَلَيْهِ وعَلى كُلِّ ما قادَتْهُ الحِكْمَةُ في حَيِّزِهِ حَتّى لَمَّ يَبْقَ لِأحَدٍ شُبْهَةٌ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ، كانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَهْدِيدِهِمْ عَلى الإعْراضِ عَنْهُ وتَسْلِيَةَ رَسُولِهِمْ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ مُعْرِضًا عَنْ خِطابِهِمْ إيذانًا بِشَدِيدِ الغَضَبِ: ﴿فَإنْ أعْرَضُوا﴾ أيْ عَنْ إجابَةِ هَذا الدُّعاءِ الَّذِي وجَبَتْ إجابَتُهُ والشَّرْعُ الَّذِي وضَّحَتْ وصَحَّتْ طَرِيقَتُهُ بِما تَأيَّدَ بِهِ مِنَ الحُجَجِ، ولَفَتَ القَوْلَ إلى مَظْهَرِ العَظَمَةِ دَفْعًا لِما قَدْ يُوهِمُ الإرْسالَ مِنَ الحاجَةِ فَقالَ: ﴿فَما أرْسَلْناكَ﴾ مَعَ ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ أيْ نَقْهَرُهم عَلى امْتِثالِ ما أرْسَلْناكَ بِهِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ. فَأعْرَضَ عَنْ غَيْرِ إبْلاغِهِمْ لِأنّا إنَّما أرْسَلْناكَ مُبَلِّغًا، وُضِعَ مَوْضِعُهُ: ﴿إنْ﴾ أيْ ما ﴿عَلَيْكَ إلا البَلاغُ﴾ لِما أرْسَلْناكَ بِهِ، وأمّا الهِدايَةُ والإضْلالُ فَإلَيْنا. (p-٣٤٩)ولَمّا ضَمِنَ لِهَذِهِ الآيَةِ ما أرْسَلَهُ لَهُ، أتْبَعَهُ ما جُبِلَ عَلَيْهِ الإنْسانُ بَيانًا لِأنَّهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا حُكْمَ لَهُ عَلى الطِّباعِ وأنَّ الَّذِي عَلَيْهِ إنَّما هو الإسْماعُ لا السَّماعُ، فَقالَ عاطِفًا عَلى ما قَبْلَ آيَةِ الشَّرْعِ مِن قَوْلِهِ ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ﴾ [الشورى: ١٢] حاكِيًا لَهُ في أُسْلُوبِ العَظَمَةِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالإعْراضِ عَمّا هو جَدِيرٌ بِأنْ لا يُعْرِضَ عَنْهُ عاقِلٌ، وإيماءٌ إلى أنَّ الإنْسانَ لِغَلَبَةِ جَهْلِهِ وقِلَّةِ عَقْلِهِ يَجْتَرِئُ بِأدْنى تَأْنِيسٍ عَلى مَن تُجَسَّدُ الجِبالُ لِعَظَمَتِهِ وتَنْدَكُّ الشَّوامِخُ مِن هَيْبَتِهِ: ﴿وإنّا إذا أذَقْنا﴾ بِعَظْمَتِنا الَّتِي لا يُمْكِنُ مُخالَفَتُها. ولَمّا كانَ مَن يَفْرَحُ بِالنِّعْمَةِ عِنْدَ انْفِرادِهِ بِها مَذْمُومًا، عَبَّرَ بِالجِنْسِ الصّالِحِ لِلْواحِدِ فَما فَوْقَهُ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ طَبْعَ الإنْسانِ عَدَمُ الِاهْتِمامِ بِشَدائِدِ الإخْوانِ إلّا مَن أقامَهُ اللهُ في مَقامِ الإحْسانِ فَقالَ: ﴿الإنْسانَ﴾ أيْ بِما جَبَلْناهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ بِالعَجَلَةِ وعَدَمِ التَّمالُكِ ﴿مِنّا رَحْمَةً﴾ أيْ نَوْعًا مِن أنْواعِ الإكْرامِ مِن صِحَّةٍ (p-٣٥٠)أوْ غِنًى ونَحْوِ ذَلِكَ، وأفْرَدَ الضَّمِيرَ إشارَةً إلى أنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلّا مِن نَفْسِهِ ولَوْ كانَ أهْلُ الأرْضِ كُلُّهم عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، وكَذا عَبَّرَ بِالإنْسانِ فَقالَ: ﴿فَرِحَ بِها﴾ أيْ ولَوْ أنَّ أهْلَ الأرْضِ كُلَّهم في نِقْمَةٍ وبُؤْسٍ وعَمًى فَأخْرَجَهُ الفَرَحُ عَنْ تَأمُّلِ ما يَنْفَعُهُ لِيَشْكُرَ، فَكانَ ذَلِكَ لِذَلِكَ كافِرًا لِلنِّعْمَةِ لِأنَّهُ أبْدَلَ الشُّكْرَ بِالفَرَحِ والكُفْرَ فَتَوَصَّلَ بِالعافِيَةِ إلى المُخالَفَةِ، فَأوْقَعَ نَفْسَهُ في أعْظَمِ البَلاءِ.
ولَمّا دَلَّ بِأداةِ التَّحَقُّقِ عَلى أنَّ النِّعْمَةَ هي الأصْلُ لِعُمُومِ رَحْمَتِهِ، وأنَّها سَبَقَتْ غَضَبَهُ، دَلَّ عَلى أنَّ السَّيِّئَةَ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها بِأداةِ الشَّكِّ والمُضارِعِ فَقالَ: ﴿وإنْ﴾ ولَمّا كانَتِ المُشارَكَةُ في الشَّدائِدِ تُهَوِّنُ المَصائِبَ، فَكانَ مَن يَزِيدُ غَمَّهُ بِخُصُوصِ مُصِيبَتِهِ عِنْدَ العُمُومِ مَذْمُومًا، نَبَّهَ عَلى نَقْصِ الإنْسانِ بِذَلِكَ بِالجَمْعِ فَقالَ: ﴿تُصِبْهم سَيِّئَةٌ﴾ أيْ نِقْمَةٌ وبَلاءٌ وشِدَّةٌ. ولَمّا كانَتِ الرَّحْمَةُ فَضْلًا مِنهُ، أعْلَمَهم أنَّ السَّيِّئَةَ مُسَبِّبَةٌ عَنْهم فَقالَ: ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ﴾ وعَبَّرَ بِاليَدِ عَنِ الجُمْلَةِ لِأنَّ أكْثَرَ العَمَلِ بِها. ولَمّا كانَ الجَوابُ عَلى نَهْجِ الأوَّلِ: حَزِنُوا فَكَفَرُوا، وعَدَلَ عَنْهُ إلى ما يَدُلُّ عَلى أنَّ جِنْسَ الإنْسانِ مَوْضِعُ الكُفْرانِ، (p-٣٥١)ولَمّا كانُوا يَدْعُونَ الشُّكْرَ ويُنْكِرُونَ الكُفْرَ، أكَّدَ قَوْلَهُ وسَبَّبَ عَنْ تِلْكَ الإصابَةِ والإذاقَةِ مَعًا إشارَةً إلى أنَّهُ لا أصْلَ لَهُ غَيْرُهُما، فَقالَ مُظْهِرًا مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِيَنُصَّ عَلى الحُكْمِ عَلى الجِنْسِ مِن حَيْثُ هُوَ: ﴿فَإنَّ الإنْسانَ﴾ أيِ الآنِسَ بِنَفْسِهِ المُعْرِضَ عَنْ غَيْرِهِ بِما هو طَبْعٌ لَهُ بِسَبَبِ مَسِّهِ بِضُرٍّ ﴿كَفُورٌ﴾ أيْ بَلِيغُ السَّتْرِ لِلنِّعَمِ نَسّاءً لَهُ، يَنْسى بِأوَّلِ صَدْمَةٍ مِنَ النِّقْمَةِ جَمِيعَ ما تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ النِّعَمِ، ولا يَعْرِفُ إلّا الحالَةَ الرّاهِنَةَ، فَإنْ كانَ في نِعَمِهِ أشَرٌ وبَطَرٌ، وإنْ كانَ في نِقَمِهِ أيْسٌ وقَنَطٌ، وهَذا حالُ الجِنْسِ مِن حَيْثُ هُوَ، ومَن وفَّقَهُ اللهُ جَنَّبَهُ ذَلِكَ كَما قالَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «”المُؤْمِنُ إنْ أصابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ وإنْ أصابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ“ ولَيْسَ ذَلِكَ إلّا لِلْمُؤْمِنِ،» والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: ذِكْرُ الفَرَحِ أوَّلًا دالٌّ عَلى الحُزْنِ ثانِيًا، وذِكْرُ الكُفْرانِ ثانِيًا دالٌّ عَلى حَذْفِهِ أوَّلًا.
{"ayah":"فَإِنۡ أَعۡرَضُوا۟ فَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظًاۖ إِنۡ عَلَیۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُۗ وَإِنَّاۤ إِذَاۤ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحۡمَةࣰ فَرِحَ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَیِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡ فَإِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ كَفُورࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق