الباحث القرآني

ولَمّا ثَبَتَ أنَّ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ وأنَّهُ لا مُتَصَرِّفَ في الوُجُودِ سِواهُ، أنْتَجَ ذَلِكَ أنَّهُ لا ناهِجَ لِطُرُقِ الأدْيانِ الَّتِي هي أعْظَمُ الرِّزْقِ وأعْظَمُ قاسِمَةٍ لِلرِّزْقِ غَيْرُهُ، فَأعْلَمَهم أنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ دِينًا قَدِيمًا وحَدِيثًا غَيْرَ ما اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وقْتَ الشَّدائِدِ. فَقالَ دالًّا عَلى ما خَتَمَ بِهِ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَها مِن شُمُولِ عِلْمِهِ ومُرَغِّبًا في لُزُومِ ما هَدى إلَيْهِ ودَلَّ عَلَيْهِ: ﴿شَرَعَ﴾ أيْ طَرَقَ وسَنَّ طَرِيقًا ظاهِرًا بَيِّنًا واضِحًا ﴿لَكُمْ﴾ أيَّتُها الأُمَّةُ الخاتِمَةُ مِنَ الطُّرُقِ (p-٢٦٤)الظّاهِرَةُ المُسْتَقِيمَةُ ﴿مِنَ الدِّينِ﴾ وهو ما يَعْمَلُ فَيُجازِي عَلَيْهِ. ولَمّا كانَ السِّياقُ لِلدِّينِ، وكانُوا هُمُ المَقْصُودِينَ في هَذا السِّياقِ بِالأمْرِ بِهِ، لِأنَّ الشّارِعَ لَهم قَدْ أنْتَجَهُ، وكانُوا لِتَقْلِيدِهِمُ الآباءَ يَرَوْنَ أنَّ ما كانَ مِنهُ أقْدَمَ كانَ أعْظَمَ وأحْكَمَ، ذَكَرَ لَهم أوَّلَ الآباءِ المُرْسَلِينَ إلى المُخالِفِينَ فَقالَ: ﴿ما﴾ أيِ الَّذِي ﴿وصّى بِهِ﴾ تَوْصِيَةً عَظِيمَةً بَعْدَ إعْلامِهِ بِأنَّهُ شَرَعَهُ ﴿نُوحًا﴾ في الزَّمانِ الأقْدَمِ كَما خَتَمَ بِهِ عَلى لِسانِ الخاتَمَ، وأرْسَلَ بِهِ مَن تَوَسَّطَ بَيْنَهُما مِنَ الأنْبِياءِ المَشاهِيرِ لِأنَّهُ لا يُرْضِيهِ سِواهُ، فَإنْ كُنْتُمْ إنَّما تَأْنَفُونَ مِنَ الدُّخُولِ في هَذا الدِّينِ لِحُدُوثِهِ فَإنَّهُ أقْدَمُ الأدْيانِ وكُلُّ ما سِواهُ حادِثٌ مَعَ أنَّهُ ما بَعَثَ نَبِيًّا مِن أنْبِيائِكم ولا مِن غَيْرِهِمْ إلّا بِهِ ومَعَ أنَّهُ تَوَفَّرَتْ عَلى الشَّهادَةِ بِهِ الفِطَرُ الأُولى دائِمًا والفِطَرُ اللّاحِقَةُ حَتّى مِنَ القُلُوبِ العاتِيَةِ في أوْقاتِ الشَّدائِدِ أبَدًا فادْخُلُوا فِيهِ عَلى بَصِيرَةٍ. ولَمّا كانَ الإعْجازُ خاصًّا بِنا، أبْرَزَهُ في مَظْهَرِ العَظَمَةِ مُعَبِّرًا بِالوَحْيِ، وبِالأصْلِ في المُوَصِّلاتِ، ودالًّا عَلى زِيادَةِ عَظَمَتِهِ بِتَقْدِيمِهِ عَلى مَن كانُوا قَبْلَهُ مَعَ تَرْتِيبِهِمْ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ عَلى تَرْتِيبِهِمْ في الوُجُودِ فَقالَ: ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ وأفْرَدَ الضَّمِيرَ زِيادَةً في عَظَمَتِهِ دَلالَةً عَلى (p-٢٦٥)أنَّهُ لا يُفْهِمُهُ حَقَّ فَهْمِهِ غَيْرُهُ ﷺ، ودَلَّ عَلى عَظَمِهِ ما كانَ لِإبْراهِيمَ وبَنِيهِ بِما ظَهَرَ مِن آثارِهِ بِمَظْهَرِ العَظَمَةِ، وعَلى نَقْصِهِ عَمّا إلى نَبِيِّنا ﷺ بِالتَّعْبِيرِ بِالوَصِيَّةِ فَقالَ: ﴿وما وصَّيْنا﴾ أيْ عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ الباهِرَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِها تِلْكَ المُعْجِزاتُ ﴿بِهِ إبْراهِيمَ﴾ الَّذِي نَجَّيْناهُ مِن كَيْدِ نَمْرُودَ بِالنّارِ وغَيْرِها ووَهَبَنا لَهُ عَلى الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ، وهو أعْظَمُ آباءِ العَرَبِ وهم يُدْعَوْنَ أكْبَرَ بِالآباءِ فَلْيَكُونُوا عَلى ما وصَّيْناهُ بِهِ ﴿ومُوسى﴾ الَّذِي أنْزَلَنا عَلَيْهِ التَّوْراةَ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴿وعِيسى﴾ الَّذِي أنْزَلْنا عَلَيْهِ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى ونُورٌ ومَوْعِظَةٌ، ودَخَرْناهُ في سَمائِنا شَرِيعَةَ الخاتَمِ الفاتِحِ. ولَمّا اشْتَدَّ تَشَوُّفُ السّامِعِ إلى المُوحى المُوصى بِهِ، أبْرَزَهُ في أُسْلُوبِ الأمْرِ فَقالَ مُبْدِلًا مِن مَعْمُولِ ”شَرَعَ“ أوْ مُسْتَأْنَفًا: ﴿أنْ أقِيمُوا﴾ أيْ أيُّها المَشْرُوعُ لَهم مِن هَذِهِ الأُمَّةِ الخاتِمَةِ ومِنَ الأُمَمِ الماضِيَةِ ﴿الدِّينِ﴾ أيِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الخَلائِقُ بِالرُّجُوعِ إلى ما فُطِرُوا عَلَيْهِ وقْتَ الِاضْطِرارِ وهو التَّوْحِيدُ والوَصْفُ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ عَلى الإطْلاقِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن كُلِّ ما أرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ هَذا عَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ ”أنْ“ مَصْدَرِيَّةً، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِتَقَدُّمِ ما هو بِمَعْنى القَوْلِ. (p-٢٦٦)ولَمّا عَظَّمَهُ بِالأمْرِ بِالِاجْتِماعِ، أتْبَعَهُ التَّعْظِيمَ بِالنَّهْيِ عَنِ الِافْتِراقِ فَقالَ: ﴿ولا تَتَفَرَّقُوا﴾ أيْ تَفَرُّقًا عَظِيمًا بِما أشارَ إلَيْهِ إثْباتُ التّاءِ، وكَأنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفَرُّقِ في الأصْلِ وأذِنَ في الِاجْتِهادِ عَلى قَدْرِ القُوَّةِ في الفَرْعِ ﴿فِيهِ﴾ أيِ الدِّينِ في أوْقاتِ الرَّخاءِ عِنْدَ التَّقَلُّبِ في لَذِيذِ ما أنْعَمَ بِهِ الشّارِعُ لَهُ الآمِرُ بِهِ المُرَغِّبُ في اتِّباعِهِ المُرْهِبُ مِنِ اجْتِنابِهِ، واجْتَمَعُوا عَلى ما أرْسَلَهُ الَّذِي أثْبَتُّمْ لَهُ جَمِيعَ صِفاتِ الكَمالِ عِنْدَ الشَّدائِدِ مِن غَيْرِ خِلافٍ أصْلًا في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ، فَإنَّ التَّفَرُّقَ سَبَبُ الهَلاكِ، والِاجْتِماعَ سَبَبُ النَّجاةِ، فَكُونُوا يَدًا واحِدَةً يا أهْلَ الكِتابِ قالَ تَعالى ﴿يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم ألا نَعْبُدَ إلا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٦٤] ولَمّا نَهى عَنِ التَّفَرُّقِ، حَثَّ عَلى لُزُومِ الِاجْتِماعِ اللّازِمِ بِهِ بِتَعْلِيلِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ﴾ أيْ جَلَّ وعَظُمَ وشُقَّ حَتّى ضاقَتْ بِهِ صُدُورُهُمْ، وهو ﴿ما تَدْعُوهم إلَيْهِ﴾ أيُّها النَّبِيُّ الفاتِحُ الخاتَمُ مِنَ الِاجْتِماعِ أبَدًا عَلى ما اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وقْتَ الِاضْطِرارِ مِن وحْدانِيَّةِ الواحِدِ القَهّارِ، فَلِأجْلِ كِبَرِهِ عَلَيْهِمْ هم يَسْعَوْنَ في تَفَرُّقِكم عَنْهُ فَإنْ تَفَرَّقْتُمْ عَنْهُ (p-٢٦٧)كُنْتُمْ قَدْ تابَعْتُمُ العَدُوَّ الحَسُودَ وخالَفْتُمُ الوَلِيَّ الوَدُودَ. ولَمّا كانَ الإخْبارُ بِكَرِّهِ عَلَيْهِمْ رُبَّما أوْهَمَ اتِّباعَ أتْباعِهِمْ لَهُ، أزالَ ذَلِكَ الوَهْمَ بِقَوْلِهِ جَوابًا لِمَن كَأنَّهُ قالَ: كَيْفَ السَّبِيلُ مَعَ ذَلِكَ إلى دُخُولِ أحَدٍ في هَذا الدِّينِ، عادِلًا عَنْ مَظْهَرِ العَظَمَةِ إلى أعْظَمَ مِنهُ تَعْظِيمًا لِلْقُدْرَةِ عَلى جَمِيعِ القُلُوبِ: ﴿اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ مَجامِعُ العَظَمَةِ ونُفُوذُ الأمْرِ ﴿يَجْتَبِي﴾ أيْ يَخْتارُ بِغايَةِ العِنايَةِ ويَصْرِفُ ﴿إلَيْهِ﴾ أيْ إلى هَذا الدِّينِ الَّذِي تَدْعُوهم إلَيْهِ ﴿مَن يَشاءُ﴾ اجْتِباءَهُ. ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ بِهَذا المُرادِ بِغَيْرِ تَكَسُّبٍ مِنهُ، أتْبَعَهُ المَزِيدَ المَعْنى بِالسُّلُوكِ فَقالَ: ﴿ويَهْدِي إلَيْهِ﴾ بِالتَّوْفِيقِ لِلطّاعَةِ ﴿مَن يُنِيبُ﴾ أيْ فِيهِ أهْلِيَّةٌ لِأنَّ يُجَدِّدَ الرُّجُوعَ إلى مَراتِبِ طاعاتِهِ كُلَّ حِينٍ بِباطِنِهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ بِظاهِرٍ إلى ما كَتَبَهُ لَهُ مِنَ الدَّرَجاتِ كَأنَّهُ كانَ الوُصُولُ إلَيْها قَدْ نَزَلَ عَنْها وهو بِتَرَقِّيهِ في المُنازَلاتِ بِأحْوالِ الطّاعاتِ يَرْجِعُ إلَيْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب