الباحث القرآني

(p-٢٣٠)سُورَةُ حم عسق وتُسَمّى أيْضًا عسق والشُّورى مَقْصُودُها الِاجْتِماعُ عَلى الدِّينِ الَّذِي أساسُهُ الإيمانُ، وأُمُّ دَعائِمِهِ الصَّلاةُ، ورُوحُ أمْرِهِ الأُلْفَةُ بِالمُشاوَرَةِ المُقْتَضِيَةِ لِكُلِّ أهْلِ الدِّينِ كُلِّهِمْ في سَواءٍ كَما أنَّهم في العُبُودِيَّةِ لِشارِعِهِ سَواءٌ، وأعْظَمُ نافِعٍ في ذَلِكَ الإنْفاقِ والمُؤاساةِ فِيما في اليَدِ، والعَفْوِ والصَّفْحِ عَنِ المُسِيءِ، والإذْعانِ لِلْحَقِّ وإنْ صَعُبَ وشَقَّ، وذَلِكَ كُلُّهُ الدّاعِي إلَيْهِ هَذا الكِتابُ الَّذِي هو رُوحُ جَسَدِ هَذا الدِّينِ المُعَبِّرِ عَمّا دَعا إلَيْهِ مِن مَحاسِنِ الأعْمالِ، وشَرائِفِ الخِلالِ بِالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وإلى ذَلِكَ لَوَّحَ آخَرُ آخِرَ السُّورَةِ الماضِيَةِ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ ( ﴿ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ [فصلت: ٥٤] (وصَرَّحَ ما في هَذِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣] ﴿إلا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ [الشورى: ٢٣] ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ﴾ [الشورى: ٤٧] ﴿نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ [الشورى: ٥٢] ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] ﴿ألا إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ [الشورى: ٥٣] (وتَسْمِيَتُها بِالشُّورى واضِحُ المُطابَقَةِ لِذَلِكَ لِما في الِانْتِهاءِ وكَذَلِكَ بِالأحْرُفِ المُتَقَطِّعَةِ فَإنَّها جامِعَةٌ لِلْمَخارِجِ الثَّلاثَةِ: الحَلْقُ والشَّفَةُ واللِّسانُ، وكَذا (p-٢٣١)جَمْعُها لِصِنْفَيِ المَنقُوطَةِ والعاطِلَةِ، ووَصْفَيِ المَجْهُورَةِ والمَهْمُوسَةِ، وهي واسِطَةٌ جامِعَةٌ بَيْنَ حُرُوفِ أُمِّ الكِتابِ الذِّكْرُ الأوَّلُ، وحُرُوفُ القُرْآنِ العَظِيمِ، وهَذا المَقْصُودُ هو غايَةُ المَقْصُودِ مِن أُخْتِها سُورَةُ مَرْيَمَ المُوافِقَةِ لَها في الِابْتِداءِ بِالتَّساوِي في عَدَدِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ، وفي الِانْتِهاءِ مِن حَيْثُ أنَّ مَنِ اخْتَصَّ بِمَصِيرِ الأُمُورِ، كانَ المُخْتَصُّ بِالقُدْرَةِ عَلى إهْلاكِ القُرُونِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَقْصُودَها اتِّصافُهُ تَعالى بِشُمُولِ الرَّحْمَةِ بِإفاضَةِ جَمِيعِ النِّعَمِ عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وغايَةِ هَذا الِاجْتِماعِ عَلى الدِّينِ، ولَمّا تَوافَقَتا في المَقْصُودِ في الِابْتِداءِ والِانْتِهاءِ، واخْتُصَّتِ الشُّورى بِأنَّ حُرُوفَها اثْنانِ، دَلَّ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ أرْبابَ البَصائِرِ عَلى أنَّهُ إشارَةٌ إلى أنَّ الدِّينَ قِسْمانِ: أُصُولٌ وفُرُوعٌ، دَلَّتْ مَرْيَمُ عَلى الأُصُولِ ﴿ذَلِكَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ [مريم: ٣٤] وإنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ هَذا صِراط مُسْتَقِيم، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥] والشُّورى عَلى مَجْمُوعِ الدِّينِ أُصُولًا وفُرُوعًا شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ [الشورى: ١٣] (الآيَةُ، هَذا مُوافَقَةُ البِدايَةِ، وأمّا مُوافَقَةُ النِّهايَةِ فَهو أنَّهُما خَتَمَتا بِكَلِمَتَيْنِ: أوَّلُ كُلٍّ مِنهُما آخِرُ الأُخْرى وآخِرُ كُلِّ أوَّلٍ الأُخْرى وإيذانًا بِأنَّ السُّورَتَيْنِ دائِرَةٌ واحِدَةٌ مُحِيطَةٌ بِالدِّينِ مُتَّصِلَةٌ لا انْفِصامَ لَها، وذَلِكَ أنَّ آخِرَ مَرْيَمَ أوَّلُ الشُّورى وآخِرَ الشُّورى أوَّلُ مَرْيَمَ ﴿فَإنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ﴾ [مريم: ٩٧] (، الآيَةُ هو ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [الشورى: ٣] ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢] ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ (p-٢٣٢)ولا الإيمانُ﴾ [الشورى: ٥٢] (إلى آخِرِها هو ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا﴾ [مريم: ٢] (- إلى آخِرِ القِصَّةِ في الدُّعاءِ بِإرْثِ الحِكْمَةِ والنُّبُوَّةِ الَّذِي رُوحُهُ الوَحْيُ واللهُ الهادِي، وكَذا تَسْمِيَتُها بِبَعْضِها بِدَلالَةِ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ بِسْمِ اللهِ (الَّذِي أحاطَ بِصِفاتِ الكَمالِ، فَنَفَذَ أمْرُهُ، فاسْتَجابَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ طَوْعًا أوْ كَرْهًا الرَّحْمَنُ (الَّذِي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ فَهَيَّأتْ عِبادَهُ لِقَبُولِ أمْرِهِ الرَّحِيمِ (الَّذِي خَصَّ أوْلِياءَهُ بِما تَرْتَضِيهِ الإلَهِيَّةُ مِن رَحْمَتِهِ، فَجَمَعَ كَلِمَتَهم عَلى دِينِهِ عَقْدًا وفِعْلًا ومَآلًا * * * ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ هَذِهِ الحُرُوفُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ إشارَةً إلى كَلِماتٍ مُنْتَظِمَةٍ مِن كَلامٍ عَظِيمٍ يُشِيرُ إلى أنَّ مَعْنى هَذا الجَمْعِ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: حِكْمَةُ مُحَمَّدٍ عَلَتْ وعَمَّتْ فَعَفَتْ سِقامَ القُلُوبِ، وقَسَّمَتْ حُرُوفَها قِسْمَيْنِ مُوافِقَةٍ لِبَقِيَّةِ أخَواتِها وبَعْدَها آيَتَيْنِ، ولَمْ تُقَسَّمْ ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] لِأنَّها آيَةٌ واحِدَةٌ ولا أُخْتَ لَها ولَمْ تُقَسَّمْ ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] مَثَلًا وإنْ كانَ لَها أخَواتٌ لِأنَّها آيَةٌ واحِدَةٌ، ولَمْ يَعُدْ في شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ حَرْفٌ واحِدٌ آيَةً، ويَجُوزُ أنْ يُعْتَبَرَ مُفْرَدَةً فَتَكُونُ إشارَةً إلى أسْرارٍ تَمْلَأُ الأقْطارَ، وتَشْرَحُ الصُّدُورَ والأفْكارَ، فَإنْ نَظَرْتَ إلى مَخارِجِها وجَدْتَها قَدْ حَصَلَ الِابْتِداءُ فِيها بِأدْنى وسَطِ (p-٢٣٣)الحَلْقِ إلى اللِّسانِ بِاسْمِ الحاءِ وثَنى بِأوْسَطِ حُرُوفِ الشَّفَةِ وهي المِيمُ وحَصَلَ الرُّجُوعُ إلى وسَطِ الحَلْقِ بِأقْصاهُ مِنَ اللِّسانِ في اسْمِ العَيْنِ، وهو جامِعٌ لِلْحَلْقِ واللِّسانِ، وقَصَدَ رابِعًا إلى اللِّسانِ بِالسِّينِ الَّتِي هي مِن أدْناهُ إلى الشَّفَتَيْنِ وهو رَأْسُهُ ولَها التِصاقٌ بِالشَّفَتَيْنِ واتِّصالٌ بِأعْلى الفَمِ فَفِيها بِهَذا الِاعْتِبارِ جَمْعٌ ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَ هَذا الظُّهُورِ بُطُونًا إلى أصْلِ اللِّسانِ، وهو أقْصاهُ مِنَ الشَّفَةِ بِالقافِ، ولِاسْمِ هَذا الحَرْفِ جَمْعٌ بِالِابْتِداءِ بِأصْلِ اللِّسانِ مَعَ سَقْفِ الحَلْقِ والِاخْتِتامِ بِالشَّفَةِ العُلْيا والثَّنِيَّتَيْنِ السُّفْلَيَيْنِ، فَفي هَذِهِ الحُرُوفِ ثَلاثَةٌ وهي أكْثَرُها لَها نَظَرَ بِما فِيها مِنَ الجَمْعِ إلى مَقْصُودِ السُّورَةِ، وقَدِ اتَّسَقَ الِابْتِداءُ فِيها فِيما كانَ مِن حَرْفَيْنِ جَمَعَهُما مَخْرَجٌ بِالأعْلى ثُمَّ بِالأدْنى إشارَةً إلى أنَّهُ يَكُونُ لِأهْلِ هَذا الدِّينِ بَعْدَ الظُّهُورِ بُطُونٌ كَما كانَ في أوَّلِ الإسْلامِ حَيْثُ حُصِرَ النَّبِيُّ ﷺ وأقارِبُهُ في الشِّعْبِ، وذَلِكَ أيْضًا إشارَةٌ إلى أنَّهُ مِن تَحْلِيَةِ الظّاهِرِ يَنْتَقِلُ إلى تَصْفِيَةِ الباطِنِ مَن زَيَّنَ ظاهِرَهُ بِجَمْعِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ صَحَّحَ اللهُ باطِنَهُ بِالمُراقَبَةِ الخالِصَةِ النّاصِحَةِ عَلى أنَّ في هَذا التَّدَلِّي بُشْرى بِأنَّ الحالَ الثّانِي يَكُونُ أعْلى مِنَ الأوَّلِ، كَما كانَ عِنْدَ الظُّهُورِ مِنَ الشِّعْبِ بِما حَصَلَ مِن نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الظّالِمَةِ الَّذِي كانَ الضِّيقُ سَبَبًا لَهُ، لِأنَّ الثّانِي مِن مَراتِبِ هَذِهِ الحُرُوفَ أقْوى صِفَةً مِمّا هو أعْلى مِنهُ مَخْرَجًا، فَإنَّ الحاءَ لَها مِنَ الصِّفاتِ الهَمْسُ والرَّخاوَةُ والِاسْتِفالُ (p-٢٣٤)والِانْفِتاحُ والمِيمُ لَهُ مِنَ الصِّفاتِ الجَهْرُ والِانْفِتاحُ والِاسْتِفالُ وبَيْنَ الشِّدَّةِ والرَّخاوَةِ، والعَيْنُ لَها مِنَ الصِّفاتِ ما لِلْمِيمِ سَواءٌ، والسِّينُ لَها مِنَ الصِّفاتِ ما لِلِحاءِ، وتَزِيدُ بِالصَّفِيرِ، والقافُ لَهُ مِنَ الصِّفاتِ الجَهْرُ والشِّدَّةُ والِانْفِتاحُ والِاسْتِعْلاءُ والقَلْقَلَةُ فالحَرْفُ الأوَّلُ أكْثَرُ صِفاتِهِ الضَّعْفُ، ويَزِيدُ بِالإمالَةِ الَّتِي قَرَأ بِها كَثِيرٌ مِنَ القُرّاءِ، والثّانِي والثّالِثُ عَلى السَّواءِ، وهُما إلى القُوَّةِ أرَجَحُ قَلِيلًا، وذَلِكَ كَما تَقَدَّمَ مِن وسَطِ الحالِ عِنْدَ الخُرُوجِ مِنَ الشِّعْبِ، والرّابِعُ فِيهِ قُوَّةٌ وضَعْفٌ وضَعْفُهُ أكْثَرُ، فَإنَّ فِيهِ لِلضَّعْفِ ثَلاثَ صِفاتٍ ولِلْقُوَّةِ صِفَتَيْنِ، وذَلِكَ كَما كانَ حالُ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ آخِرِ أمْرِهِ بِمَكَّةَ المُشَرَّفَةَ حِينَ ماتَ الوَزِيرانِ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأبُو طالِبٍ لَكِنْ رُبَّما كانَتِ الصِّفَتانِ القَوِيَّتانِ عالِيَتَيْنِ عَلى الصِّفاتِ الضَّعِيفَةِ بِما فِيهِما بِالِانْتِشارِ بِالصَّفِيرِ والجَمْعِ الَّذِي مَضَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ مِنَ الإشارَةِ إلى ضَخامَةٍ تَكُونُ بِاجْتِماعِ أنْصارٍ كَما وقَعَ مِن بَيْعَةِ الأنْصارِ، والخامِسُ وهو الأخِيرُ كُلُّهُ قُوَّةٌ كَما وقَعَ بَعْدَ الهِجْرَةِ عِنْدَ اجْتِماعِ الكَلِمَةِ وظُهُورِ العَظَمَةِ، كَما قالَ ﷺ: «فَلَمّا هاجَرْنا انْتَصَفْنا مِنَ القَوْمِ وكانَتْ سِجالُ الحَرْبِ بَيْنَنا وبَيْنَهُمْ» ثُمَّ تَكامَلَتِ القُوَّةُ عِنْدَ تَكامُلِ الِاجْتِماعِ بَعْدَ قِتالِ أهْلِ الرِّدَّةِ (p-٢٣٥)بَعْدَ مَوْتِهِ ﷺ لا جَرَمَ انْتَشَرَ أهْلُ هَذا الدِّينِ في الأرْضِ يَمِينًا وشَمالًا، فَما قامَ لَهم مُخالِفٌ، ولا وافَقَتْهم أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ عَلى ضَعْفِ حالِهِمْ وقِلَّتِهِمْ وقُوَّةِ غَيْرِهِمْ وكَثْرَتِهِمْ إلّا دَمَّرُوا عَلَيْهِمْ فَجَعَلُوهم كَأمْسِ الدّارِ، وقَدْ جُمِعَتْ هَذِهِ الحُرُوفُ كَما مَضى وصْفَيِ المَجْهُورَةِ والمَهْمُوسَةِ كانَتِ المَجْهُورَةُ أغْلَبَها إشارَةٌ إلى ظُهُورِ هَذا الدِّينِ عَلى كُلِّ دِينٍ كَما حَقَّقَهُ شاهِدُ الوُجُودِ، وصِنْفَيِ المَنقُوطَةِ والعاطِلَةِ، وكانَتْ كُلُّها عاطِلَةً إلّا حَرْفًا واحِدًا، إشارَةً إلى أنَّ أحْسَنَ أحْوالِ المُؤْمِنِ أنْ يَكُونَ أغْلَبُ أحْوالِهِ مَحْوًا لا يُرى لَهُ صِفَةٌ مِنَ الصِّفاتِ بَلْ يُعَدُّ في زُمْرَةِ الأمْواتِ وإلى أنَّ المُتَحَلِّيَ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ الخالِصَةِ مِن أهْلِ القُلُوبِ مِن أرْبابِ هَذا الدَّيْنِ قَلِيلٌ جِدًّا، وكانَ المَنقُوطُ آخِرَها إشارَةً إلى أنَّ نِهايَةَ المَراتِبِ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ الجَمْعُ بَعْدَ المَحْوِ والفَرْقِ وكانَ حَرْفُ الشَّفَةِ مِن بَيْنِ حُرُوفِها المِيمُ، وهي ذاتُ الدّائِرَةِ المُسْتَوِيَةِ الِاسْتِدارَةِ إشارَةً إلى أنَّ لِأهْلِ هَذا الدِّينِ مِنَ الِاجْتِماعِ فِيهِ والِانْطِباقِ عَلَيْهِ والإطافَةِ بِهِ والإسْراعِ إلَيْهِ ما لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ وإلى أنَّهم مِنَ القَدَمِ الرّاسِخِ في القَوْلِ المُقْتَطَعِ مِنَ الفَمِ المُخْتَتِمِ بِالشَّفَتَيْنِ ما لا يَبْلُغُهُ غَيْرُهم بِحَيْثُ أنَّهُ لا نِهايَةَ لَهُ (p-٢٣٦)مَعَ حُسْنِ اسْتِنارَتِهِ بِتَناسَبُ اسْتِدارَتُهُ، ثُمَّ إنَّكَ إذا بَلَغْتَ نِهايَةَ الجَمْعِ في هَذِهِ الأحْرُفِ بِأنْ جَمَعْتَ أعْدادَ مُسَمَّياتِها وهو مِائَتانِ وثَمانِيَةٌ وسَبْعُونَ وفي السَّنَةِ المُوافِقَةِ لِهَذا العَدَدِ كانَتْ وِلادَتِي، فَكانَ الِابْتِداءُ في هَذا الكِتابِ الدِّينِيِّ حِينَئِذٍ بِالقُوَّةِ القَرِيبَةِ مِنَ الفِعْلِ وسَنَةِ ابْتِدائِيٍّ فِيهِ بِالفِعْلِ وهي سَنَةُ إحْدى وسِتِّينَ في شَعْبانَ كانَ سِنِّي إذا ذاكَ قَدْ شارَفَ أرْبَعًا وخَمْسِينَ سَنَةً، وهو مُوافِقٌ لِعَدَدٍ حَرْفِيٍّ دِنَّ أمْرًا مِنَ الدِّينِ الَّذِي هو مَقْصُودُ السُّورَةِ، فَكَأنَّهُ أمَرَ إذْ ذاكَ بِالشُّرُوعِ في الكِتابِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُها، وسَنَةُ وُصُولِي إلى هَذِهِ السُّورَةِ وهي سَنَةُ إحْدى وسَبْعِينَ في شَعْبانَ مِنها كانَ سِنِّي قَدْ شارَفَ أرْبَعًا وسِتِّينَ سَنَةً، وهو عَدَدٌ مُوافِقٌ لِعَدَدِ أحْرُفِ دِين الَّذِي هو مَقْصُودُ السُّورَةِ، فَأنا أرْجُو بِهَذا الِاتِّفاقِ الغَرِيبِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُشِيرًا إلى أنَّ اللهَ تَعالى يَجْمَعُ بِكِتابِي هَذا الَّذِي خَصَّنِي بِإلْهامِهِ وادَّخَرَ لِيَ المِنحَةَ بِحَلِّهِ وإبْرامِهِ، واعْتِناقِهِ والتِزامِهِ، أهْلُ هَذا الدِّينِ القَيِّمِ جَمْعًا عَظِيمًا جَلِيلًا جَسِيمًا، يَظْهَرُ لَهُ أثَرٌ بالِغٌ في اجْتِماعِهِمْ وحُسْنِ تَأسِّيهِمْ بِرُؤُوسِ نَقَلَتِهِ وأتْباعِهِ، ومِنَ الآثارِ الجَلِيلَةِ في لَحْظِها لِلْجَمْعِ أنَّهُ لَمّا كانَ مَقْصُودُ سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْها (p-٢٣٧)السَّلامُ بَيانَ اتِّصافِ الرَّحْمَنِ، المُنَزَّلِ لِهَذا القُرْآنِ، بِشُمُولِ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ الأكْوانِ، وكانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ لِرَحْمَةٍ خاصَّةٍ مِن آثارِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ العامَّةِ، وهي الِاجْتِماعُ عَلى هَذا الدِّينِ المُرادِ ظُهُورُهُ وعُلُوُّهُ عَلى كُلِّ دِينٍ وقَهْرُهُ لِكُلِّ أمْرٍ، فَكانَ لِذَلِكَ مُحِيطًا قاهِرًا لِحَظِّ كَلِّ قاهِرٍ وظالِمٍ، وكانَتْ هَذِهِ الرَّحْمَةُ الخاصَّةُ - لِنِسْبَتِها إلى الخَلْقِ - ثانِيَةً لِتِلْكَ العامَّةِ ومُنْشَعِبَةً مِنها، كانَتْ لِكَوْنِها مِن أوْصافِ الخَلْقِ بِمَنزِلَةِ اليَسارِ، وتِلْكَ لِكَوْنِها مِن صِفَةِ الحَقِّ بِمَنزِلَةِ اليَمِينِ، لِذَلِكَ - واللَّهُ أعْلَمُ - قالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِيُّ في كِتابٍ لَهُ في الحَرْفِ: ولَمّا كانَ ذَلِكَ - أيْ هَذِهِ الِاسْمُ المُجْتَمِعُ مِن هَذِهِ الأحْرُفِ المُقَطَّعَةِ - أوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مِمّا يُنْسَبُ إلى أمْرِ الشَّمالِ كانَ مَتى وضَعَ عَلى أصابِعِ اليَسارِ ثُمَّ وضَعَتْ عَلى هانِجَةِ ظُلْمٍ أوْ جَوْرٍ اسْتَوْلى عَلَيْهِ بِحُكْمِ إحاطَةِ حِكْمَةِ اللَّهِ، وكانَتْ خُمْسُها مُضافَةً إلى خُمْسِ ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] المُسْتَوْلِيَةِ عَلى حِكْمَةِ اليَمِينِ مُحِيطًا ذَلِكَ بِالعُشْرِ المُحِيطِ بِكُلِّ الحِكْمَةِ الَّتِي مَسْنَدُها الياءُ الَّذِي هو أوَّلُ العُشْرِ ومَحَلُّ الِاسْتِواءِ بِما هو عائِدٌ وحْدَةُ الألِفِ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب