الباحث القرآني
ولَمّا تَضَمَّنَتِ الآيَةُ السّالِفَةُ الجَزاءَ عَلى كُلِّ جَلِيلٍ وحَقِيرٍ، وقَلِيلٍ وكَثِيرٍ، والبَراءَةِ مِنَ الظُّلْمِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٦٩] ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ﴾ [الزمر: ٧٠] ﴿وهُوَ أعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ﴾ [الزمر: ٧٠] وأُشِيرَ إلى التَّوَعُّدِ بِالجَزاءِ في يَوْمِ الفَصْلِ لِأنّا نُشاهِدُ أكْثَرَ الخَلْقِ يَمُوتُ مِن غَيْرِ جَزاءٍ، وكانَ مِن عادَتِهِمُ السُّؤالُ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ اليَوْمِ، وكانَ تَرْكُ الجَزاءِ إنَّما يَكُونُ لِلْعَجْزِ، والظُّلْمُ إنَّما يَكُونُ لِلْجَهْلِ، لِأنَّهُ وضْعُ الأشْياءِ في غَيْرِ مِحالِّها فِعْلُ الماشِي في الظَّلامِ، دَلَّ عَلى تَعالِيهِ عَنْ كُلٍّ مِنهُما بِتَمامِ العِلْمِ المُسْتَلْزِمِ لِشُمُولِ القُدْرَةِ عَلى وجْهٍ فِيهِ جَوابُهم عَنِ السُّؤالِ عَنْ عِلْمِ الوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ السّاعَةُ الَّذِي كانَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ - كَما ذَكَرَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ - بِقَوْلِهِ عَلى سَبِيلِ التَّعْلِيلِ: (p-٢١٢)﴿إلَيْهِ﴾ أيْ إلى المُحْسِنِ إلَيْكَ لا إلى غَيْرِهِ ﴿يُرَدُّ﴾ مِن كُلِّ رادٍّ ﴿عِلْمُ السّاعَةِ﴾ أيِ الَّتِي لا ساعَةَ في الحَقِيقَةِ غَيْرُها، لِما لَها مِنَ الأُمُورِ الَّتِي لا نِسْبَةَ لِغَيْرِها بِها، فَهي الحاضِرَةُ لِذَلِكَ في جَمِيعِ الأذْهانِ، وإنَّما يَكُونُ الجَزاءُ عَلى الإساءَةِ والإحْسانِ فِيها حَتّى يَظْهَرَ لِكُلِّ أحَدٍ ظُهُورًا بَيِّنًا لِكُلِّ أحَدٍ أنَّهُ لا ظُلْمَ أصْلًا، فَلا يُمْكِنُ أنْ يُسْألَ أحَدٌ سِواهُ عَنْها ويُخْبِرَ عَنْها بِما يُغْنِي في تَعْيِينِ وقْتِها وكَيْفِيَّتِها وصَنْعَتِها، وكُلَّما انْتَقَلَ السّائِلُ مِن مَسْؤُولٍ إلى أعْلَمَ مِنهُ وجَدَهُ كالَّذِي قَبْلَهُ حَتّى يَصِلَ الأمْرُ إلى اللهِ تَعالى، والعالِمُ مِنهم هو الَّذِي يَقُولُ: اللَّهُ أعْلَمُ، فاسْتِئْثارُهُ بِعِلْمِها دالٌّ عَلى تَناهِي عِلْمِهِ، وحَجْبُهُ لَهُ عَنْ كُلٍّ مِن دُونِهِ دالٌّ عَلى تَمامِ قُدْرَتِهِ، واجْتِماعِ الأمْرَيْنِ مُسْتَلْزِمٌ لِبُعْدِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وأنَّهُ لا يَصِحُّ اتِّصافُهُ بِهِ، فَلا بُدَّ مِن إقامَتِهِ لَها لِيُوَفِّيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، ويَأْخُذَ لِكُلِّ مَظْلُومٍ ظَلامَتَهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ.
ولَمّا كانُوا يُنازِعُونَ في وُقُوعِها فَضْلًا عَنِ العِلْمِ بِها، عَدَّها أمْرًا مُحَقَّقًا مَفْرُوغًا مِنهُ وذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى شُمُولِ عِلْمِهِ لِكُلِّ حادِثٍ في وقْتِهِ دَلِيلًا عَلى عِلْمِهِ بِما يُعَيَّنُ وقْتَ السّاعَةِ، وذَلِكَ عَلى وجْهٍ يَدُلُّ عَلى قُدْرَتِهِ عَلَيْها وعَلى كُلِّ مَقْدُورٍ بِما لا نِزاعَ لَهم فِيهِ مِن ثَمَراتِ النَّباتِ والحَيَوانِ الَّتِي (p-٢١٣)هِيَ خَبْءٌ في ذَواتِ ما هي خارِجَةٌ مِنهُ، فَهي كَخُرُوجِ النّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مِن خَبْءِ الأرْضِ، فَقالَ مُقَدِّمًا لِلرِّزْقِ عَلى الخَلْقِ كَما هو الألْيَقُ، عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَما يَعْلَمُها ولا يَعْلَمُها إلّا هُوَ: ﴿وما تَخْرُجُ﴾ أيْ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ الماضِيَةِ والكائِنَةِ والآيَةِ، فَإنَّ ”ما“ النّافِيَةُ لا تَدْخُلُ إلّا عَلى مَعْناهُ الحُلُولُ، فالمُرادُ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ إنْ كانَ زَمانُهُ قَدْ مَضى أوْ لَمْ يَأْتِ، وأكَّدَ النَّفْيُ بِالجارِّ فَقالَ: ﴿مِن ثَمَراتٍ﴾ أيْ صَغِيرَةٍ أوْ كَبِيرَةٍ صالِحَةٍ أوْ فاسِدَةٍ مِنَ الفَواكِهِ والحُبُوبِ وغَيْرِها؛ والإفْرادُ في قِراءَةِ الجَماعَةِ لِلْجِنْسِ الصّالِحِ لِلْقَلِيلِ والكَثِيرِ، نَبَّهَتْ قِراءَةُ نافِعٍ وابْنِ عامِرٍ وحَفْصٍ عَنْ عاصِمٍ بِالجَمْعِ عَلى كَثْرَةِ الأنْواعِ ﴿مِن أكْمامِها﴾ جَمْعُ كُمٍّ وكِمامَةٍ بِالكَسْرِ فِيهِما وهو وِعاءُ الطَّلْعِ وغِطاءُ النُّورِ، وكُلُّ ما غَطّى عَلى وجْهِ الإحاطَةِ شَيْئًا مِن شَأْنِهِ أنْ يَخْرُجَ فَهو كُمٌّ، ومِنهُ قِيلَ لِلْقَلَنْسُوَةِ: كِمَةٌ، ولَكُمُ القَمِيصُ ونَحْوُهُ: كْمٌّ، أيْ إلّا بِعِلْمِهِ ﴿وما تَحْمِلُ مِن أُنْثى﴾ خِداجًا أوْ تَمامًا، ناقِصًا أوْ تامًّا، وكَذا النَّفْيُ بِإعادَةِ النّافِي لِيَشْمَلَ كُلًّا عَلى حِيالِهِ، وعَبَّرَ بِ ”لا“ لِأنَّ الوَضْعَ لَيْسَ كالحَمْلِ يَقَعُ في لَحْظَةٍ بَلْ يَطُولُ زَمانُ انْتِظارِهِ فَقالَ: ﴿ولا تَضَعُ﴾ حَمْلًا حَيًّا أوْ مَيِّتًا ﴿إلا﴾ حالَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا ﴿بِعِلْمِهِ﴾ ولا عِلْمَ (p-٢١٤)لِأحَدٍ غَيْرُهُ بِذَلِكَ، ومَنِ ادَّعى عِلْمًا بِهِ فَلْيُخْبَرْ بِأنَّ ثَمَرَةَ الحَدِيقَةِ الفُلانِيَّةِ والبُسْتانِ الفُلانِيِّ والبَلَدِ الفُلانِيِّ تَخْرُجُ في الوَقْتِ الفُلانِيِّ أوْ لا تُخْرِجُ العامَ شَيْئًا أصْلًا والمَرْأةُ الفُلانِيَّةُ تَحْمِلُ في الوَقْتِ الفُلانِيِّ وتَضَعُ في وقْتِ كَذا أوْ لا تَحْمِلُ العامَ شَيْئًا، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لا يُحِيطُ بِهَذا عِلْمًا إلّا اللهُ سُبْحانَهُ وتَعالى.
ولَمّا ثَبَتَ بِهَذا عِلْمُهُ صَرِيحًا وقُدْرَتُهُ لُزُومًا وعَجَزَ مَن سِواهُ وجَهِلَهُ، وتَقَرَّرَ بِذَلِكَ أمْرُ السّاعَةِ مِن أنَّهُ قادِرٌ عَلَيْها بِما أقامَ مِنَ الأدِلَّةِ، وأنَّهُ لا بُدَّ مِن كَوْنِها لِما وعَدَ بِهِ مِن تَكْوِينِها لِيُنْصِفَ لِمَظْلُومٍ مِن ظالِمِهِ لِأنَّهُ حَكِيمٌ ولا يَظْلِمُ أحَدًا وإنْ كانُوا في إيجادِها يُنازِعُونَ، ولِمَ يُنْكِرُونَ قالَ تَعالى مُصَوِّرًا ما تَضَمَّنَهُ ما سَبَقَ مِن جَهْلِهِمْ، ومُقَرِّرًا بَعْضَ أحْوالِ القِيامَةِ، عاطِفًا عَلى أرْشَدِ السِّياقِ إلى تَقْدِيرِهِ مِن نَحْوِ: فَهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لِأنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وهم بِخِلافِ ذَلِكَ، مُقَرِّرًا قُدْرَتَهُ تَصْرِيحًا وعَجَزَ ما ادَّعَوْا مِنَ الشُّرَكاءِ: ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ﴾ أيِ المُشْرِكِينَ بَعْدَ بَعْثِهِمْ مِنَ القُبُورِ، لِلْفَصْلِ بَيْنَهم في سائِرِ الأُمُورِ فَيَقُولُ المُحْسِنُ إلَيْكَ بِأنْواعِ الإحْسانِ الَّذِي مِنهُ إنْصافُ المَظْلُومِ مِن ظالِمِهِ عَلى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ والتَّنْدِيمِ: ﴿أيْنَ شُرَكائِي﴾ أيِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنَّهم يَشْفَعُونَ لَكم في هَذا اليَوْمِ ويَحْمُونَكم مِنَ العِقابِ واللَّوْمِ، والعامِلُ (p-٢١٥)فِي الظَّرْفِ ﴿قالُوا﴾ أيِ المُشْرِكُونَ: ﴿آذَنّاكَ﴾ أيِ أعْلَمْناكَ سابِقًا بِألْسِنَةِ أحْوالِنا والآنَ بِألْسِنَةِ مَقالِنا، وفي كِلْتا الحالَتَيْنِ أنْتَ سامِعٌ لِذَلِكَ لِأنَّكَ سامِعٌ لِكُلِّ ما يُمْكِنُ أنْ يَسْمَعَ وإنْ لَمْ يَسْمَعْهُ غَيْرُكَ، ولِذا عَبَّرُوا بِما مِنهُ الإذْنُ ﴿ما مِنّا﴾ وأكَّدُوا النَّفْيَ بِإدْخالِ الجارِّ في المُبْتَدَأِ المُؤَخَّرِ فَقالُوا: ﴿مِن شَهِيدٍ﴾ أيْ حَيٌّ دائِمًا حاضِرٌ دُونَ غَيْبَةٍ، مُطَّلِعٌ عَلى ما يُرِيدُ مِن غَيْرِ خَفاءٍ بِحَيْثُ لا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ فَيُخْبِرُ بِما يُخْبِرُ بِهِ عَلى سَبِيلِ القَطْعِ والشَّهادَةِ، فَآلَ الأمْرُ إلى أنَّ المَعْنى: لا نَعْلَمُ أيَّ ما كُنّا نُسَمِّيهِمْ شُرَكاءَ لِأنَّهُ ما مِنّا مَن هو مُحِيطُ العِلْمِ.
{"ayah":"۞ إِلَیۡهِ یُرَدُّ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِۚ وَمَا تَخۡرُجُ مِن ثَمَرَ ٰتࣲ مِّنۡ أَكۡمَامِهَا وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ أَیۡنَ شُرَكَاۤءِی قَالُوۤا۟ ءَاذَنَّـٰكَ مَا مِنَّا مِن شَهِیدࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق