الباحث القرآني

﴿فَأرْسَلْنا﴾ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ، ودَلَّ عَلى صِغارِهِمْ وحَقارَتِهِمْ بِأداةِ الِاسْتِعْلاءِ فَقالَ: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وزادَ في تَحْقِيرِهِمْ بِأنْ أخْبَرَ أنَّهُ أهْلَكَهم لِأجْلِ ما تَعَزَّزُوا بِهِ مِن قُوَّةِ أبْدانِهِمْ ووَثاقَةِ خَلْقِهِمْ بِما هو مِن ألْطَفِ الأشْياءِ جِسْمًا وهو الهَواءُ فَقالَ: ﴿رِيحًا﴾ أيْ: عَظِيمَةً ﴿صَرْصَرًا﴾ أيْ: شَدِيدَةَ البَرْدِ والصَّوْتِ والعُصُوفِ حَتّى كانَتْ تُجَمِّدُ البَدَنَ بِبَرْدِها فَتَكُونُ كَأنَّها تَصُرُّهُ - أيْ: تَجْمَعُهُ - في مَوْضِعٍ واحِدٍ فَتَمْنَعُهُ التَّصَرُّفَ بِقُوَّتِهِ، وتَقْطَعُ القَلْبَ بِصَوْتِها، فَتَقْهَرُ شَجاعَتَهُ، وتَحْرِقُ بِشِدَّةِ بَرْدِها كُلَّ ما مَرَّتْ عَلَيْهِ. ولَمّا تَقَدَّمَ في هَذا السِّياقِ اسْتِكْبارُهم عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ وادِّعاؤُهم (p-١٦٤)أنَّهم أشَدُّ النّاسِ قُوَّةً اقْتَضى الحالُ تَحْقِيرَهم في إهْلاكِهِمْ، فَذَكَرَ الأيّامَ دُونَ اللَّيالِي وإنْ تَضَمَّنَتْها فَقالَ تَعالى: ﴿فِي أيّامٍ﴾ [ولَمّا كانَ] جَمْعُ القِلَّةِ [قَدْ] يُسْتَعارُ لِلْكَثْرَةِ حَقَّقَ أنَّ المُرادَ القِلَّةُ بِوَصْفِهِ بِجَمْعِ السَّلامَةِ فَقالَ: ﴿نَحِساتٍ﴾ وكانَ ذَلِكَ أدَلُّ عَلى هَذا المُرادِ مِن إفْرادِ اليَوْمِ كَما في القَمَرِ لِأنَّهُ قَدْ يُرادُ بِهِ زَمانٌ يَتِمُّ فِيهِ أمْرٌ ظاهِرٌ ولَوْ طالَتْ مُدَّتُهُ، ويَصِحُّ لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ مَعَ القَلِيلِ ما يَصْلُحُ لَهُ جَمْعُ الكَثْرَةِ. وفِيهِ - مَعَ أنَّهُ نِذارَةُ - رَمْزٍ لِلْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ هَذا الوَحْيُ ﷺ بِأعْظَمِ بِشارَةٍ لِما أوْمَأ إلَيْهِ افْتِتاحُ السُّورَةِ بِاسْمِ الرَّحْمَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: ٣] مِن أنَّهُ يَكُونُ لِقَوْمِهِ قُوَّةٌ وعِلْمٌ، ومَن قَرَنَ النِّذارَةَ بِالبِشارَةِ في قَوْلِهِ: ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا﴾ [فصلت: ٤] ومَن جَعَلَ أيّامَ هَذا العَذابِ ثَمانِيَةً، أشارَ إلى الحِلْمِ والتَّأنِّي كَما أشارَ إلَيْهِ ما تَقَدَّمَ مِن خَلْقِ هَذا الوُجُودِ في سِتَّةِ أيّامٍ، وقَدْ كانَ قادِرًا عَلى كُلٍّ مِنَ التَّعْذِيبِ والإيجادِ في لَحْظَةٍ [واحِدَةٍ]، فَأشارَ ذَلِكَ إلى أنَّهُ في السَّنَةِ السّادِسَةِ مِنَ الهِجْرَةِ يَكُونُ الفَتْحُ السَّبَبِيُّ بِعُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ الَّتِي كانَتْ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ الفَتْحِ، وفي السّابِعَةِ يَكُونُ الِاعْتِمارُ الَّذِي كانَ عَلَيْهِمْ أشَدَّ مِن وُقُوعِ الصّارِمِ البَتّارِ، حَتّى ذَهَبَ عَمْرُو بْنُ العاصِ مِن أجْلِ ذَلِكَ إلى الحَبَشَةِ لِئَلّا يَرى مِن دُخُولِ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ما لا صَبْرَ لَهُ (p-١٦٥)عَلَيْهِ، وفي الثّامِنَةِ يَكُونُ الفَتْحُ الحَقِيقِيُّ بِعَشْرَةِ آلافِ مُقاتِلٍ أكْثَرُهم دارِعٌ لا يُرى مِنهم إلّا الحَدْقُ، حَتّى خالُوا بَياضَ لِأُمِّهِمُ السَّرابَ، فَظَنُّوا بِهِمْ غايَةَ العَذابِ، فَكانُوا رَحْمَةً، وعادٌ رَأوُا السَّحابَ فَظَنُّوهُ رَحْمَةً فَكانَ عَذابًا ونِقْمَةٍ، ووَصْفَها بِالنَّحْسِ مُبالَغَةً مِثْلُ: ”رَجُلٍ عَدْلٍ“ لِيَدُلَّ عَلى أنَّها كانَتْ قابِلَةً لِانْفِعالِ الجَسَدِ وما كانَ فِيهِ مِنَ القُوى بِهَذِهِ الرِّيحِ، وهو مَصْدَرُ جُمِعَ لِاخْتِلافِ أنْواعِ النَّحْسِ فِيها - هَذا عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ بِسُكُونِ الحاءِ، وأمّا قِراءَةُ ابْنِ عامِرٍ والكُوفِيِّينَ بِكَسْرِ الحاءِ فَهي صِفَةٌ مِن فِعْلٍ بِالكَسْرِ مِثْلُ: فَرِحَ فَهو فَرِحٌ، وأوَّلُ هَذِهِ الأيّامِ الأرْبِعاءُ في قَوْلِ يَحْيى بْنِ سَلامٍ، وقالَ غَيْرُهُ: وما عُذِّبَ قَوْمٌ إلّا يَوْمَ الأرْبِعاءِ ﴿لِنُذِيقَهُمْ﴾ وأضافَ المَوْصُوفُ إلى صِفَتِهِ عَلى المُبالَغَةِ مِن وادِي رَجُلٍ عَدْلٍ فَقالَ: ﴿عَذابَ الخِزْيِ﴾ أيِ: الَّذِي يُهَيِّئُهم ويَفْضَحُهم ويُذِلُّهم بِما تَعَظَّمُوا وافْتَخَرُوا عَلى كَلِمَةِ اللَّهِ الَّتِي أتَتْهم بِها رُسُلَهُ، ووَصَفَ العَذابَ بِالخِزْيِ الَّذِي هو لِلْمُعَذَّبِ بِهِ مُبالَغَةً في إخْزائِهِ لَهُ ﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا﴾ لِيُذَلُّوا عِنْدَ (p-١٦٦)مَن تَعَظَّمُوا عَلَيْهِمْ في الدّارِ الَّتِي اغْتَرُّوا بِها فَتَعَظَّمُوا فِيها، فَإنَّ ذَلِكَ أدَلُّ عَلى القُدْرَةِ عِنْدَ مَن تَقَيَّدَ بِالوَهْمِ ﴿ولَعَذابُ الآخِرَةِ﴾ الَّذِي أُعِدَّ لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴿أخْزى﴾ أيْ: أشَدُّ إخْزاءً كَما قالُوا: هو أعْطاهم لِلدَّراهِمِ وأوْلاهم لِلْمَعْرُوفِ، وأكَّدَ لِإنْكارِهِمْ لَهُ. ولَمّا انْتَفَتْ مُدافَعَتُهم عَنْ أنْفُسِهِمْ، نَفى دَفْعَ غَيْرِهِمْ فَقالَ: ﴿وهُمْ﴾ أيْ: أصابَهم هَذا العَذابُ وسَيُصِيبُهم عَذابُ الآخِرَةِ والحالُ أنَّهم ﴿لا يُنْصَرُونَ﴾ أيْ: لا يُوجِدُ ولا يَتَجَدَّدُ لَهم نَصْرٌ أبَدًا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب