الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ ما هم بِهِ مُقِرُّونَ مِن إبْداعِها، أتْبَعَهُ ما جَعَلَ فِيها مِنَ الغَرائِبِ، فَقالَ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: أبْدَعَ الأرْضَ عَلى ما ذَكَرَ: ﴿وجَعَلَ﴾ ولا يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلى صِلَةِ المَوْصُولِ لِلْفَصْلِ بِأجْنَبِيٍّ ﴿فِيها رَواسِيَ﴾ [هِيَ أشَدُّها] وهي الجِبالُ، ونَبَّهَ عَلى أنَّها مُخالَفَةٌ لِلرَّواسِي في كَوْنِها تَحْتَ ما يُرادُ إرْساؤُهُ فَقالَ: ﴿مِن فَوْقِها﴾ فَمَنَعَتْها مِنَ المَيْدِ، فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أدَلَّ عَلى القُدْرَةِ، فَإنَّها لَوْ كانَتْ مِن تَحْتٍ لَظَنَّ أنَّها أساطِينُ حامِلَةٌ، ولِتَظْهَرَ مَنافِعُ الجِبالِ بِها أنْفُسُها وبِما فِيها، ويُشاهِدُ أنَّها أثْقالٌ مُفْتَقِرَةٌ إلى حامِلٍ. ولَمّا هَيَّأها لِما يُرادُ مِنها، ذَكَرَ ما أوْدَعَها فَقالَ: ﴿وبارَكَ فِيها﴾ أيْ: جَعَلَها قابِلَةً مُيَسَّرَةً صالِحَةً بِالأقْواتِ والمَنافِعِ مِنَ الذَّواتِ والمَعانِي المُعِينَةِ عَلى مَحاسِنِ العُمّالِ المُيَسَّرَةِ لِلسَّيْرِ إلَيْهِ والإقْبالِ عَلَيْهِ، ودالَّةٌ عَلى جَمِيعِ صِفاتِهِ الحُسْنى وأسْمائِهِ العُلى وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَعارِفِ والقَدْرِ والقُوى ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ أيْ: جَعَلَها مَعَ البَرَكَةِ عَلى مِقْدارٍ لا تَتَعَدّاهُ، ومِنهاجٍ بَدِيعٍ دَبَّرَهُ في الأزَلِ وارْتَضاهُ، وقَدَّرَهُ فَأمْضاهُ، ومِن ذَلِكَ أنَّهُ خَصَّ بَعْضَ البِلادِ بِشَيْءٍ لا يُوجَدُ في غَيْرِها لِتَنْظِيمِ عِمارَةِ الأرْضِ كُلِّها بِاحْتِياجِ بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ، فَكانَ (p-١٥١)جَمِيعُ ما تَقَدَّمَ مِن إيداعِها وإبْداعِها ما ذَكَرَ مِن مَتاعِها، دُفْعَةً واحِدَةً لا يَنْقُصُ عَنْ حاجَةِ المُحْتاجِينَ أصْلًا، وإنَّما يَنْقُصُ تَوَصُّلُهم أوْ تُوصُّلُ بَعْضِهِمْ إلَيْهِ فَلا يَجِدُ [لَهُ] حِينَئِذٍ ما يَكْفِيهِ، وفي الأرْضِ أضْعافُ كِفايَتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ فَذْلَكَةَ خَلْقِ الأرْضِ وما فِيها فَقالَ: ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ وهَذا العَدَدُ عِنْدَ ضَمُّ اليَوْمَيْنِ [الماضِيَيْنِ إلى] يَوْمِيِّ الأقْواتِ وهُما الثُّلاثاءُ والأرْبِعاءُ، أوْ يَكُونُ المَعْنى في تَتِمَّتِهِ أرْبَعَةَ أيّامٍ، ولا يُحْمَلُ عَلى الظّاهِرِ لِيَكُونَ سِتَّةً لِأنَّهُ سَيَأْتِي لِلسَّماواتِ يَوْمانِ فَكانَتْ تَكُونُ ثَمانِيَةً، فَتُعارِضُ آيَةَ ”الم السَّجْدَةِ“: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ [السجدة: ٤] وفَصَّلَ مِقْدارَ ما [ خَلَقَها فِيهِ ومِقْدارَ ما] خَصَّ الأقْواتَ والمَنافِعَ لِإحاطَةِ العِلْمِ بِأنَّهُ يَخُصُّ كُلَّ أمْرٍ مِنَ الأمْرَيْنِ يَوْمانِ، ونَصَّ عَلى الأوَّلِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أدَلُّ عَلى القُدْرَةِ فَيَحْسُنُ مَوْقِعَ النَّعْيِ عَلَيْهِمْ بِما فَصَلَ بِهِ الآيَتَيْنِ مِنِ اتِّخاذِ الأنْدادِ، وإنَّما كانَ أدَلَّ عَلى القُدْرَةِ، لِأنَّهُ إيجادُ ذَواتٍ مَحْسُوسَةٍ مِنَ العَدَمِ قائِمَةً بِأنْفُسِها بِخِلافِ البَرَكَةِ، وتَقْدِيرُ الأقْواتِ فَإنَّهُ أمْرٌ لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُفْرِدْ يَوْمَيْهِ بِالذِّكْرِ، بَلْ جَعَلَهُما تابِعَيْنِ كَما أنَّ ما قُدِّرَ فِيهِما تابِعٌ، ولَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ في أقَلِّ مِن لَمْحِ البَصَرِ مَعَ تَمامِ القُدْرَةِ عَلَيْهِ، لِأنَّ هَذا أدَلُّ عَلى الِاخْتِيارِ وأدْخَلُ في الِابْتِلاءِ والِاخْتِيارِ، لِيَضِلَّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِيَ (p-١٥٢)بِهِ كَثِيرًا، فَيَكُونُ أعْظَمَ لِأُجُورِهِمْ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى تَسْلِيمِهِمْ، وجَعَلَ مُدَّةَ خَلْقِها ضِعْفَ مُدَّةِ السَّماءِ مَعَ كَوْنِها أصْغَرَ مِنَ السَّماءِ دَلالَةً عَلى أنَّها [هِيَ] المَقْصُودَةُ بِالذّاتِ لِما فِيها مِنَ الثَّقَلَيْنِ، فَزادَتْ بِما فِيها مِن كَثْرَةِ المَنافِعِ وتَبايُنِ أصْنافِ الأعْراضِ والجَواهِرِ لِأنَّ ذَلِكَ أدْخَلُ في المِنَّةِ عَلى سُكّانِها، والِاعْتِناءُ بِشَأْنِهِمْ وشَأْنِها، وزادَتْ أيْضًا بِما فِيها مِنَ الِابْتِلاءِ بِالتَّهْيِئَةِ لِلْمَعاصِي والمُجاهَداتِ والمُعالَجاتِ الَّتِي يَتَنافَسُ فِيها المَلَأُ الأعْلى ويَتَخاصَمُ - كُلُّ ذَلِكَ دَلالَةً عَلى أنَّ المُدَّةَ ما هي لِأجْلِ القُدْرَةِ بَلْ لِأجْلِ التَّنْبِيهِ عَلى ما في المُقَدَّرِ مِنَ المَقْدُورِ وعَجائِبِ الأُمُورِ، ولِيَعْلَمَ أيْضًا بِخَلْقِ السَّماءِ الَّتِي هي أكْبَرُ جُرْمًا وأتْقَنُ جِسْمًا وأعْظَمُ زِينَةً وأكْثَرُ مَنافِعَ بِما لا يُقايِسُ في أقَلِّ مِن مُدَّةِ خَلْقِ الأرْضِ أنَّ خَلْقَها في تِلْكَ المُدَّةِ لَيْسَ لِلْعَجْزِ عَنْ إيجادِها في أقَلِّ مِنَ اللَّمْحِ، بَلْ لِحِكَمٍ تَعْجَزُ عَنْ حَمْلِها العُقُولُ، ولَعَلَّ تَخْصِيصَ السَّماءِ بِقَصْرِ المُدَّةِ دُونَ العَكْسِ لِإجْراءِ أمْرِها [عَلى] ما نَتَعارَفُهُ مِن أنَّ بِناءَ السَّقْفِ أخَفُّ مِن بِناءِ البَيْتِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ بَنى أمْرَ دارِنا هَذِهِ عَلى الأسْبابِ تَعْلِيمًا لِلتَّأنِّي وتَدْرِيبًا عَلى السَّكِينَةِ والبُعْدِ مِنَ العَجَلَةِ.
(p-١٥٣)ولَمّا كانَ لَفْظُ ”سَواءً“ الَّذِي هو بِمَعْنى العَدْلِ الَّذِي لا يَزِيدُ عَنِ [النِّصْفِ ولا يَنْقُصُ يَطْلَبُ اثْنَيْنِ، تَقُولُ: ”سَواءً زَيْدٌ وعَمْرٌو إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ“ قالَ تَعالى] مُزِيلًا لِما أوْهَمَهُ قَوْلُهُ: ﴿أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ مِن أنَّها لِلْأقْواتِ والبِرْكَةِ لِيَكُونَ مَعَ يَوْمَيْنِ مِنَ الأرْضِ سِتَّةً، ناصِبًا عَلى المَصْدَرِ: ”سَواءً“ أيِ: التَّوْزِيعُ إلى يَوْمَيْنِ ويَوْمَيْنِ عَلى السَّواءِ ﴿لِلسّائِلِينَ﴾ أيْ: لِمَن سَألَ أوْ كانَ بِحَيْثُ يَسْألُ ويَشْتَدُّ بَحْثُهُ بِسُؤالٍ أوْ نَظَرٍ عَنِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ غَيْرِها، ولا يَتَأتّى إلّا بَيْنَ يَوْمَيْنِ ويَوْمَيْنِ [ لا بَيْنَ يَوْمَيْنِ ] وأرْبَعَةٍ، لا يَزِيدُ أحَدُ الشِّقَّيْنِ مِنَ اليَوْمَيْنِ عَلى اليَوْمَيْنِ الآخَرَيْنِ ذَرَّةٌ بِعِلْمٍ مُحِيطٍ وقُدْرَةٍ شامِلَةٍ، ولَيْسَ ذَلِكَ كَأيّامِ الدُّنْيا، لا بُدَّ في [كَلِّ] يَوْمٍ مِنها مِن زِيادَةٍ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ أوْ نَقْصٍ، ومَجْمُوعُ الأرْبَعَةِ كَأرْبَعَةٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا لا تَزِيدُ عَلَيْها ولا تَنْقُصُ، وقِراءَةُ يَعْقُوبَ بِجَرِّ ”سَواءٍ“ مُعِينَةٌ لِأنْ تَكُونُ نَعْتًا لِـ ”أرْبَعَةٍ“ وقِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وعَنْ خَلْقِها وتَتْمِيمِها [فِي] أرْبَعَةِ أيّامٍ كانَتْ فُصُولُها أرْبَعَةً، قالَ ابْنُ بُرْجانَ: ألا تَرى الأمْرَ يَنْزِلُ إلى السَّماءِ أوَّلًا في إنْزالِ الماءِ فَيَخْلُقُهُ فِيما هُنالِكَ ثُمَّ يُنْزِلُهُ إلى الأرْضِ والنَّباتِ (p-١٥٤)والحَيَوانِ عَنِ الماءِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ بِمَنزِلَةِ النَّسْلِ بَيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثى وبِمَنزِلَةِ تَسْخِيرِ السَّماءِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما لِما وُجِدَتا لَهُ فافْهَمْ - أمْرٌ قَوِيمٌ وحِكْمَةٌ شائِعَةٌ آيَةُ قَضائِهِ بَرَكاتُ الأرْضِ في أرْبَعَةِ أيّامٍ بِواسِطَةِ ما قَدَّرَ في السَّماءِ مِن أمْرٍ وهي الأرْبَعَةُ الفُصُولِ مِنَ السَّنَةِ. الشِّتاءُ الرَّبِيعُ الصَّيْفُ والخَرِيفُ، فَهَذِهِ الأيّامَ مَعْلُومَةٌ بِالمُشاهَدَةِ، فِيهِنَّ يَتِمُّ زَرْعُ الأرْضِ وبَرَكاتُ الدُّنْيا وجَمِيعُ ما يُخْرِجُهُ مِنها مِن فَوائِدَ وعَجائِبَ، قالَ: وقَوْلُهُ ﴿لِلسّائِلِينَ﴾ تَعْجِيبٌ وإغْرابٌ وتَعْظِيمٌ لِلْمُرادِ المَعْنى بِالخِطابِ، وقَدْ يَكُونُ مَعْنى السَّواءِ زائِدًا إلى ما تَقَدَّمَ أنَّ بِهَذِهِ الأرْبَعَةِ الأيّامِ اسْتَوَتِ السَّنَةُ مَطالِعُها ومَغارِبُها وقُرْبُها وبُعْدُها وارْتِفاعُها ونُزُولُها في شَمالِي بُرُوجِها وجَنُوبَيْها بِإحْكامِ ذَلِكَ كُلِّهِ وتَوابِعِهِ - انْتَهى.
{"ayah":"وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰسِیَ مِن فَوۡقِهَا وَبَـٰرَكَ فِیهَا وَقَدَّرَ فِیهَاۤ أَقۡوَ ٰتَهَا فِیۤ أَرۡبَعَةِ أَیَّامࣲ سَوَاۤءࣰ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











