الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَ آخِرَ تِلْكَ أنَّ كَلِمَةَ العَذابِ حَقَّتْ عَلى الكافِرِينَ، فَكانَ ذَلِكَ رُبَّما أيْأسُ مِن تَلَبُّسٍ بِكُفْرٍ مِنَ الفَلاحِ، وأوْهَمَهُ أنَّ انْسِلاخَهُ مِنَ الكُفْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وكانَ الغُفْرانُ - وهو مَحْوُ الذَّنْبِ عَيْنًا وأثَرًا - مُتَرَتِّبًا عَلى العِلْمِ بِهِ، والتَّمَكُّنِ مِنَ الغُفْرانِ وما رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الأوْصافِ نَتِيجَةَ العِزَّةِ، دَلَّ عَلَيْهِما مُسْتَعْطِفًا لِكُلِّ عاصٍ ومُقَصِّرٍ بِقَوْلِهِ: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ﴾ أيْ بِتَوْبَةٍ وغَيْرِ تَوْبَةٍ إنْ شاءَ، وهَذا الوَصْفُ لَهُ دائِمًا فَهو مَعْرِفَةٌ. قالَ السَّمِينُ: نَصَّ سِيبَوَيْهَ عَلى أنَّ كُلَّ ما إضافَتُهُ غَيْرَ مَحْضَةٍ جازَ أنْ تُجْعَلَ مَحْضَةً وتُوصَفَ بِها المَعارِفُ إلّا الصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ، ولَمْ يَسْتَثْنِ الكُوفِيُّونَ شَيْئًا. ولَمّا أفْهَمَ تَقْدِيمَهُ عَلى التَّوْبَةِ أنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْها فِيما عَدا الشِّرْكَ، وكانَ المُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: قَدْ أشْرَكْنا وقَتَلْنا وبالَغْنا في المَعاصِي فَلا يُقْبَلُ رُجُوعُنا فَلا فائِدَةَ لَنا في إسْلامِنا، رَغَّبَهم في التَّوْبَةِ بِذِكْرِها وبِالعَطْفِ (p-٦)بِالواوِ الدّالَّةِ عَلى تَمَكُّنِ الوَصْفِ إعْلامًا بِأنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَتَعاظَمُهُ ذَنَبٌ فَقالَ: ﴿وقابِلِ التَّوْبِ﴾ وجَرَّدَ المَصْدَرَ لِيَفْهَمَ أنَّ أدْنى ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كافٍ وجَعْلُهُ اسْمَ جِنْسٍ كَأخَواتِهِ أنْسَبُ مِن جَعْلِهِ بَيْنَها جَمْعًا كَتَمْرٍ وتَمْرَةٍ. ولَمّا كانَ الِاقْتِصارُ عَلى التَّرْغِيبِ بِما أطْمَعَ عُذْرَ المُتَمادِي مِن سَطْوَتِهِ، فَقالَ مُعَرِّيًا عَنِ الواوِ لِئَلّا يُؤْنِسَ ما يَشْعُرُ بِهِ كُلٌّ مِنَ العَطْفِ والصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ مِنَ التَّمَكُّنِ، وذَلِكَ إعْلامًا بِخَفِيِّ لُطْفِهِ في أنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وأنَّهُ لَوْ أبْدى كُلَّ ما عِنْدَهُ مِنَ العِزَّةِ لَأهْلَكَ كُلَّ مَن عَلَيْها كَما أُشِيرَ إلَيْهِ بِالمُفاعَلَةِ في ﴿ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ﴾ [النحل: ٦١] فَإنَّ الفِعْلَ إذا كانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ كانَ أبْلَغَ: ﴿شَدِيدِ العِقابِ﴾ عَلى أنَّ تَنْكِيرَهُ وإبْهامَهُ - كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - لِلدَّلالَةِ عَلى فَرْطِ الشِّدَّةِ وعَلى ما لا شَيْءَ أدْهى مِنهُ وأمَرُّ، لِزِيادَةِ الإنْذارِ وهي أخْفى مِن دَلالَةِ الواوِ لَوْ أُوتِيَ بِها. ولَمّا أتَمَّ التَّرْغِيبَ بِالعَفْوِ والتَّرْهِيبِ مِنَ الأخْذِ، أتْبَعَهُ التَّشْوِيقَ إلى الفَضْلِ، فَقالَ مُعَرِّيًا عَنِ الواوِ لِأنَّ التَّمامَ لا يَقْتَضِي المُبالَغَةَ، والحَذْفُ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالغَرَضِ فَإنَّ دَلِيلَ العَقْلِ قائِمٌ عَلى كَمالِ صِفاتِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ أيْ سِعَةِ الفَضْلِ والإنْعامِ والقُدْرَةِ والغِنى والسِّعَةِ والمِنَّةِ، لا يُماثِلُهُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ أحَدٌ ولا يُدانِيهِ، ثُمَّ عَلَّلَ تَمَكُّنَهُ في كُلِّ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ بِوَحْدانِيَّتِهِ فَقالَ: ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ ولَمّا أنْتَجَ (p-٧)هَذا كُلَّهُ تَفَرُّدُهُ، أنْتَجَ قَطْعًا قَوْلَهُ: ﴿إلَيْهِ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿المَصِيرُ﴾ أيْ في المَعْنى في الدُّنْيا، وفي الحِسِّ والمَعْنى في الآخِرَةِ، لِيَظْهَرَ كُلٌّ مِن هَذِهِ الصِّفاتِ ظُهُورًا تامًّا، بِحَيْثُ لا يَبْقى في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ لَبْسٌ، فَإنَّهُ لا يَصِحُّ في الحِكْمَةِ أنْ يَبْغِيَ أحَدٌ عَلى العِبادِ ثُمَّ يَمُوتُ في عِزَّةٍ مِن غَيْرِ نِقْمَةٍ فَيَضِيعُ ذَلِكَ المَبْغِيُّ عَلَيْهِ، لِأنَّ هَذا أمْرٌ لا يَرْضى أقَلُّ النّاسِ أنْ يَكُونَ بَيْنَ عَبِيدِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب