الباحث القرآني
ولَمّا انْقَضى كَلامُ الرَّأْسَيْنِ، وكانَتْ عادَةُ مَن لَمْ يَكُنْ لَهم نِظامٌ مِنَ اللَّهِ رابِطُ أنَّ قُلُوبَهم لا تَكادُ تَجْتَمِعُ وأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يُجاهِرَ بَعْضُهم بِما عِنْدَهُ ولَوْ عَظُمَ شَأْنُ المَلِكِ القائِمِ بِأمْرِهِمْ، واجْتَهَدَ في جَمْعٍ مُفْتَرِقٍ (p-٥٣)عَلَنُهم وسِرُّهُمْ، قالَ تَعالى مُخْبِرًا عَنْ كَلامِ بَعْضِ الأتْباعِ في بَعْضِ ذَلِكَ: ﴿وقالَ رَجُلٌ﴾ أيْ كامِلٌ في رُجُولِيَّتِهِ ﴿مُؤْمِنٌ﴾ أيْ راسِخُ الإيمانِ فِيما جاءَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. ولَمّا كانَ لِلْإنْسانِ، إذا عَمَّ الطُّغْيانُ، أنْ يَسْكُنَ بَيْنَ أهْلِ العُدْوانِ، إذا نَصَحَ بِحَسَبِ الإمْكانِ، أفادَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أيْ وُجُوهِهِمْ ورُؤَسائِهِمْ ﴿يَكْتُمُ إيمانَهُ﴾ أيْ يُخْفِيهِ إخْفاءً شَدِيدًا خَوْفًا عَلى نَفْسِهِ لِأنَّ الواحِدَ إذا شَذَّ عَنْ قَبِيلَةٍ يَطْمَعُ فِيهِ ما لا يَطْمَعُ إذا كانَ واحِدًا مِن جَماعَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، مُخَيَّلًا لَهم بِما يُوقِفُهم عَنِ الإقْدامِ عَلى قَتْلِهِ مِن غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالإيمانِ.
ولَمّا رَآهم قَدْ عَزَمُوا عَلى القَتْلِ عَزْمًا قَوِيًّا أوْقَعَ عَلَيْهِ اسْمَ القَتْلِ، فَقالَ مُنْكِرًا لَهُ غايَةَ الإنْكارِ: ﴿أتَقْتُلُونَ رَجُلا﴾ أيْ هو عَظِيمٌ في الرِّجالِ حِسًّا ومَعْنًى، ثُمَّ عَلَّلَ قَتْلَهم لَهُ بِما يُنافِيهِ فَقالَ: ﴿أنْ﴾ أيْ لِأجْلِ أنْ ﴿يَقُولَ﴾ ولَوْ عَلى سَبِيلِ التَّكْرِيرِ: ﴿رَبِّيَ﴾ أيِ المُرَبِّي لِي والمُحْسِنِ إلَيَّ ﴿اللَّهُ﴾ أيِ الجامِعِ لِصِفاتِ الكَمالِ ﴿وقَدْ﴾ أيْ والحالُ أنَّهُ قَدْ ﴿جاءَكم بِالبَيِّناتِ﴾ أيِ الآياتِ الظّاهِراتِ مِن غَيْرِ لَبْسٍ ﴿مِن رَبِّكُمْ﴾ أيِ الَّذِي لا إحْسانَ عِنْدِكم إلّا مِنهُ، وكَما أنَّ رُبُوبِيَّتَهُ لَهُ اقْتَضَتْ عَنْهُ الِاعْتِرافَ لَهُ بِها فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ رُبُوبِيَّتُهُ لَكم داعِيَةً لَكم إلى (p-٥٤)اعْتِرافِكم لَهُ بِها.
ولَمّا كانَ كَلامُهُ هَذا يَكادُ أنْ يُصَرِّحَ بِإيمانِهِ، وصَلَهُ بِما يُشَكِّكُهم في أمْرِهِ ويُوقِفُهم عَنْ ضُرِّهِ، فَقالَ مُشِيرًا إلى أنَّهُ لا يَخْلُو حالُهُ مِن أنْ يَكُونَ صادِقًا أوْ كاذِبًا، مُقَدِّمًا القَسَمَ الَّذِي هو أنْفى لِلتُّهْمَةِ عَنْهُ وأدْعى لِلْقَبُولِ مِنهُ: ﴿وإنْ﴾ أيْ والحالُ أنَّهُ إنْ.
ولَمّا كانَ المَقامُ لِضِيقِهِ غايَةَ الضِّيقِ بِالكَوْنِ بَيْنَ شُرُورٍ ثَلاثَةٍ عَظِيمَةٍ: قَتْلُهم خَيْرَ النّاسِ إذْ ذاكَ، وإتْيانُهم بِالعَذابِ، واطِّلاعُهم عَلى إيمانِهِ، فَأقَلَّ ما يَدْعُوهم ذَلِكَ إلى اتِّهامِهِ إنْ لَمْ يَحْمِلْهم عَلى إعْدامِهِ داعِيَةٌ لِلْإيجازِ في الوَعْظِ والمُسارَعَةِ إلى الإتْيانِ بِأقَلِّ ما يُمْكِنُ، حَذَفَ النُّونَ فَقالَ: ﴿يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ﴾ أيْ خاصَّةً ﴿كَذِبُهُ﴾ يَضُرُّهُ ذَلِكَ ولَيْسَ عَلَيْكم مِنهُ ضَرَرٌ، ولَمْ يَقُلْ: أوْ صادِقًا، وإنْ كانَ الحالُ مُقْتَضِيًا لِغايَةِ الإيجازِ لِئَلّا يَكُونَ قَدْ نَقَصَ الجانِبُ المَقْصُودُ بِالذّاتِ حَقَّهُ، فَيَكُونُ قَدْ أخَلَّ بِبَعْضِ الأدَبِ، فَقالَ مُظْهِرًا لِفِعْلِ الكَوْنِ عادِلًا عَمّا لَهُ إلى ما عَلَيْهِمْ مُعادِلًا لِما ذَكَرَهُ عَلَيْهِ ونَقَصَهُ عَنْهُ إظْهارًا لِلنَّصَفَةِ ودَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ: ﴿وإنْ يَكُ﴾ حَذَفَ نُونَهُ لِمِثْلِ ما مَضى ﴿صادِقًا يُصِبْكُمْ﴾ أيْ عَلى وجْهِ العُقُوبَةِ مِنَ اللَّهِ ولَهُ صِدْقُهُ (p-٥٥)يَنْفَعُهُ ولا يَنْفَعُكم شَيْئًا.
ولَمّا كانَ العاقِلُ مَن نَظَرَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يُرِدْ كَلامَ خَصْمِهِ مِن غَيْرِ حُجَّةٍ، وكانَ أقَلَّ ما يَكُونُ مَن تَوَعَّدَ مَن بانَتْ مَخايِلُ صِدْقِهِ البَعْضَ، قالَ مُلْزِمًا الحُجَّةَ بِالبَعْضِ، غَيْرَ نافٍ لِما فَوْقَهُ إظْهارًا لِلنَّصافِ وأنَّهُ لَمْ يُوصِلْهُ حَقَّهُ فَضْلًا عَنِ التَّعَصُّبِ لَهُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ: ﴿بَعْضُ الَّذِي﴾ وقالَ: ﴿يَعِدُكُمْ﴾ دُونَ ”يُوعِدُكُمْ“ إشارَةً إلى أنَّهم إنْ وافَوْهُ أصابَهم جَمِيعُ ما وعَدَهُمُوهُ مِنَ الخَيْرِ، وإلّا دَهاهم ما تَوَعَّدَهم مِنَ الشَّرِّ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: ذِكْرُ اخْتِصاصِهِ بِضُرِّ الكَذِبِ أوَّلًا دَلِيلًا عَلى ضِدِّهِ وهو اخْتِصاصُهُ بِنَفْعِ الصِّدْقِ ثانِيًا، وإصابَتُهم ثانِيًا دَلِيلًا عَلى إصابَتِهِ أوَّلًا، وسَرَّهُ أنَّهُ ذَكَرَ الضّارَّ في المَوْضِعَيْنِ، لِأنَّهُ أنْفَعُ في الوَعْظِ لِأنَّ مِن شَأْنِ النَّفْسِ الإسْراعَ في الهَرَبِ مِنهُ، ولَقَدْ قامَ أعْظَمُ مِن هَذا المَقامِ - كَما في الصَّحِيحِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو مَظْهَرُ إيمانِهِ وقَدْ جَدَّ الجَدُّ بِتَحَقُّقِ الشُّرُوعِ في الفِعْلِ حَيْثُ أخَذَ المُشْرِكُونَ بِمَجامِعِ ثَوْبِ النَّبِيِّ ﷺ وهو يَطُوفُ بِالبَيْتِ فالتَزَمَهُ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو يَقُولُ هَذِهِ الآيَةَ، ودُمُوعُهُ (p-٥٦)تَجْرِي عَلى لِحْيَتِهِ حَتّى فَرَّجَ اللَّهُ وقَدْ مَزَّقُوا كَثِيرًا مِن شَعْرِ رَأْسِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ».
ولَمّا كانَ فِرْعَوْنُ قَدْ نُسِبَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِما زَعَمَهُ مِن إرادَتِهِ إظْهارُ الفَسادِ إلى الإسْرافِ بَعْدَ ما نَسَبَهُ إلَيْهِ مِنَ الكَذِبِ، عَلَّلَ هَذا المُؤْمِنُ قَوْلَهُ هَذا الحُسْنُ في شَقَيِّ التَّقْسِيمِ بِما يَنْطَبِقُ إلى فِرْعَوْنَ مُنَفِّرًا مِنهُ مَعَ صَلاحِيَتِهِ لِإرادَةِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى ما زَعَمَهُ فِيهِ فِرْعَوْنُ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ مَجامِعُ العَظَمَةُ ومَعاقِدُ العِزِّ ﴿لا يَهْدِي﴾ أيْ إلى ارْتِكابِ ما يَنْفَعُ واجْتِنابِ ما يَضُرُّ ﴿مَن هو مُسْرِفٌ﴾ أيْ بِإظْهارِ الفَسادِ مُتَجاوِزٌ لِلْحَدِّ، وكَأنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَّزَ أنْ يَتَأخَّرَ شَيْءٌ مِمّا تَوَعَّدَ بِهِ فَيُسَمُّوهُ كَذِبًا، ولِذا قالَ ﴿يُصِبْكم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ فَعَلَّقَ الأمْرَ بِالمُبالَغَةِ فَقالَ: ﴿كَذّابٌ﴾ لِأنَّ أوَّلَ خِذْلانِهِ وضَلالِهِ تَعَمُّقُهُ في الكَذِبِ، ويَهْدِي مَن هو مُقْتَصِدٌ صادِقٌ، فَإنْ كانَ كاذِبًا كَما زَعَمْتُمْ ضَرَّهُ كَذِبُهُ، ولَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهٍ يُخَلِّصُهُ، وإنْ كانَ صادِقًا أصابَتْكُمُ العُقُوبَةُ ولَمْ تَهْتَدُوا لِما يُنْجِيكُمْ، لِاتِّصافِكم (p-٥٧)بِالوَصْفَيْنِ.
{"ayah":"وَقَالَ رَجُلࣱ مُّؤۡمِنࣱ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَكۡتُمُ إِیمَـٰنَهُۥۤ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن یَقُولَ رَبِّیَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَاۤءَكُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن یَكُ كَـٰذِبࣰا فَعَلَیۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن یَكُ صَادِقࣰا یُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِی یَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ مُسۡرِفࣱ كَذَّابࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق