الباحث القرآني

ولَمّا اقْتَضى السِّياقُ الأكْمَلُ فِيما سَبَقَ إتْمامَ أمْرِ عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - (p-٥١٩)إذْ كانَ الكَلامُ في بَيانِ عَظِيمِ جُرْأتِهِمْ وجَفائِهِمْ؛ وكانَ ما فَعَلُوا مَعَهُ أدَلَّ دَلِيلٍ عَلى ذَلِكَ؛ وكانَ كُلٌّ مِن أعْدائِهِ؛ وأحْبابِهِ؛ قَدْ ضَلَّ في أمْرِهِ؛ وغَلا في شَأْنِهِ اليَهُودُ بِخَفْضِهِ؛ والنَّصارى بِرَفْعِهِ؛ اقْتَضى قانُونُ العِلْمِ والحِكْمَةِ؛ المُشارِ إلَيْهِما بِخِتامِ الآيَةِ السّالِفَةِ؛ بَيانَ ما هو الحَقُّ مِن شَأْنِهِ؛ ودُعاءَ الفَرِيقَيْنِ إلَيْهِ؛ فَقالَ: ﴿يا أهْلَ الكِتابِ﴾؛ أيْ: عامَّةً؛ ﴿لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ﴾؛ أيْ: لا تُفَرِّطُوا في أمْرِهِ؛ فَتُجاوِزُوا بِسَبَبِهِ حُدُودَ الشَّرْعِ؛ وقَوانِينَ العَقْلِ؛ ﴿ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ﴾؛ أيْ: المَلِكِ الأعْلى؛ الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ؛ شَيْئًا مِنَ القَوْلِ؛ ﴿إلا الحَقَّ﴾؛ أيْ: الَّذِي يُطابِقُهُ الواقِعُ؛ فَمَن قالَ عَنْ عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - إنَّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ؛ فَقَدْ أغْرَقَ في الباطِلِ؛ فَإنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ ما وقَفَتْ أُمُّهُ لِلدَّوامِ عَلى الطّاعاتِ؛ ولا ظَهَرَتْ عَلَيْها عَجائِبُ الكَراماتِ؛ ولا تَكَلَّمَ هو في المَهْدِ؛ ولا ظَهَرَتْ عَلى لِسانِهِ يَنابِيعُ الحِكْمَةِ؛ ولا قَدَرَ عَلى إحْياءِ المَوْتى؛ وذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) العَلِيمَ الحَكِيمَ أظْهَرَ المُعْجِزاتِ عَلى يَدِ مَن لا يُحِبُّهُ؛ وذَلِكَ مُنافٍ لِلْحِكْمَةِ؛ فَهو كَذِبٌ عَلى اللَّهِ؛ بَعِيدٌ عَنْ تَنْزِيهِهِ؛ ومَن قالَ: إنَّهُ اللَّهُ؛ أوِ ابْنُ اللَّهِ؛ فَهو أبْطَلُ وأبْطَلُ؛ فَإنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما كانَ حادِثًا؛ ولَما احْتاجَ إلى الطَّعامِ؛ والشَّرابِ؛ وما يَنْشَأُ عَنْهُما؛ ولا قَدِرَ أحَدٌ عَلى أذاهُ؛ ولَثَبَتَتِ الحاجَةُ إلى الصّاحِبَةِ لِلْإلَهِ؛ فَلَمْ يَصْلُحْ لِلْإلَهِيَّةِ؛ وذَلِكَ أبْطَلُ الباطِلِ. ولَمّا ادَّعى اليَهُودُ أنَّهُ غَيْرُ رَسُولٍ؛ والنَّصارى أنَّهُ إلَهٌ؛ حَسُنَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما المَسِيحُ﴾؛ أيْ: المُبارَكُ الَّذِي هو أهْلٌ لِأنَّ يَمْسَحَهُ الإمامُ (p-٥٢٠)بِدُهْنِ القُدْسِ؛ لِما فِيهِ مِن صَلاحِيَةِ الإمامَةِ؛ وهو أهْلٌ أيْضًا لِأنْ يَمْسَحَ النّاسَ ويُطَهِّرَهُمْ؛ لِما لَهُ مِنَ الكَرامَةِ؛ ولَمّا ابْتَدَأ - سُبْحانَهُ - بِوَصْفِهِ الأشْهَرِ؛ وكانَ قَدْ يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ؛ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿عِيسى﴾؛ ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾؛ اتَّصَلَ بِها اتِّصالَ الأوْلادِ بِأُمَّهاتِهِمْ؛ لا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ لِلْبُنُوَّةِ إلى غَيْرِها؛ ولَيْسَ هو اللَّهَ؛ ولا ابْنَ اللَّهِ - كَما زَعَمَ النَّصارى - ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾؛ لا أنَّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ - كَما كَذَبَ اليَهُودُ. ولَمّا كانَ تَكَوُّنُهُ بِكَلِمَةِ اللَّهِ؛ مِن غَيْرِ واسِطَةِ ذَكَرٍ؛ جُعِلَ نَفْسَ الكَلِمَةِ؛ فَقالَ: ﴿وكَلِمَتُهُ﴾؛ لِأنَّهُ كانَ بِها مِن غَيْرِ تَسَبُّبٍ عَنْ أبٍ؛ بَلْ كَوْنًا خارِقًا لِلْعَوائِدِ؛ ﴿ألْقاها﴾؛ أيْ: أوْصَلَها عَلى عُلُوِّ أمْرِهِ؛ وعَظِيمِ قُدْرَتِهِ؛ إيصالًا سَرِيعًا؛ ﴿إلى مَرْيَمَ﴾؛ وحَصَّلَها فِيها؛ وزادَهُ تَشْرِيفًا؛ بِقَوْلِهِ: ﴿ورُوحٌ﴾؛ أيْ: عَظِيمَةٌ؛ نَفَخَها؛ فِيما تَكَوَّنَ في مَرْيَمَ مِنَ الجَسَدِ الَّذِي قامَ بِالكَلِمَةِ؛ لا بِمادَّةٍ مِن ذَكَرٍ؛ والرُّوحُ هو النَّفْخُ؛ في لِسانِ العَرَبِ؛ وهو كالرِّيحِ؛ إلّا أنَّهُ أقْوى؛ بِما لَهُ مِنَ الواوِ؛ والحَرَكَةِ المُجانِسَةِ لَها؛ ولِغَلَبَةِ الرُّوحِ عَلَيْهِ كانَ يُحْيِي المَوْتى؛ إذا أرادَ؛ وأكْمَلَ شَرَفَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنهُ﴾؛ أيْ: وإنْ كانَ جِبْرائِيلُ هو النّافِخَ؛ وإذا وُصِفَ شَيْءٌ بِغايَةِ الطِّهارَةِ قِيلَ: ”رُوحٌ“؛ لا سِيَّما إنْ كانَ بِهِ حَياةٌ في دِينٍ؛ أوْ بَدَنٍ. (p-٥٢١)ولَمّا أفْصَحَ بِهَذا الحَقِّ سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ﴾؛ أيْ: الَّذِي لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ؛ ولا يَحْتاجُ إلى شَيْءٍ؛ ﴿ورُسُلِهِ﴾؛ أيْ: عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وغَيْرِهِ عامَّةً؛ مِن غَيْرِ إفْراطٍ ولا تَفْرِيطٍ؛ ولا تُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ؛ ولا تَكْفُرُوا بِبَعْضٍ؛ فَإنَّ ذَلِكَ حَقًّا هو الكُفْرُ الكامِلُ - كَما مَرَّ. ولَمّا أمَرَهم بِإثْباتِ الحَقِّ؛ نَهاهم عَنِ التَّلَبُّسِ بِالباطِلِ؛ فَقالَ: ﴿ولا تَقُولُوا﴾؛ أيْ: في أمْرِ عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ﴿ثَلاثَةٌ﴾؛ أيْ: اسْتَمِرُّوا أيُّها اليَهُودُ عَلى التَّكْذِيبِ بِما يَقُولُ فِيهِ النَّصارى؛ ولا تَقُولُوا: إنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِن أبٍ وأُمٍّ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ - المُقْتَضِي لِلتَّثْلِيثِ؛ وارْجِعُوا أيُّها النَّصارى عَنِ التَّثْلِيثِ الَّذِي تُرِيدُونَ بِهِ أنَّ الإلَهَ بِثَلاثَةٍ؛ وإنْ ضَمَمْتُمْ إلَيْهِ أنَّهُ إلَهٌ واحِدٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ بَدِيهِيُّ البُطْلانِ؛ فالحاصِلُ أنَّهُ نَهى كُلًّا عَنِ التَّثْلِيثِ؛ وإنْ كانَ المَرادانِ بِهِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ وإنَّما العَدْلُ فِيهِ أنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ؛ فَهُما اثْنانِ لا غَيْرُ؛ وهو عَبْدُ اللَّهِ؛ ورَسُولُهُ؛ وكَلِمَتُهُ؛ ورُوحٌ مِنهُ. ولَمّا نَهاهم عَنْ ذَلِكَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ؛ صَرَّحَ بِهِ في مادَّتِهِ؛ مُرَغِّبًا؛ مُرَهِّبًا؛ في صِيغَةِ الأمْرِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿انْتَهُوا﴾؛ أيْ: عَنِ التَّثْلِيثِ الَّذِي نَسَبْتُمُوهُ إلى اللَّهِ بِسَبَبِهِ؛ وعَنْ كُلِّ كُفْرٍ؛ وقَدْ أرْشَدَ سِياقُ التَّهْدِيدِ إلى أنَّ التَّقْدِيرَ: ”إنْ تَنْتَهُوا يَكُنْ الِانْتِهاءُ ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾“. ولَمّا نَفى أنْ يَكُونَ هو اللَّهَ؛ كَما تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ؛ حَصَرَ القَوْلَ فِيهِ - سُبْحانَهُ - في ضِدِّ ذَلِكَ؛ كَما فَعَلَ في عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَقالَ: (p-٥٢٢)﴿إنَّما اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ؛ ولَمّا كانَ النِّزاعُ إنَّما هو في الوَحْدانِيَّةِ؛ مِن حَيْثُ الإلَهِيَّةُ؛ لا مِن حَيْثُ الذّاتُ؛ قالَ: ﴿إلَهٌ واحِدٌ﴾؛ أيْ: لا تَعَدُّدَ فِيهِ بِوَجْهٍ. ولَمّا كانَ المَقامُ عَظِيمًا؛ زادَ في تَقْدِيرِهِ؛ فَنَزَّهَهُ عَمّا قالُوهُ؛ فَقالَ: ﴿سُبْحانَهُ﴾؛ أيْ: تَنَزَّهَ؛ وبَعُدَ بُعْدًا عَظِيمًا؛ وعَلا عُلُوًّا كَبِيرًا؛ ﴿أنْ﴾؛ أيْ: عَنْ أنْ؛ ﴿يَكُونَ لَهُ ولَدٌ﴾؛ أيْ: كَما قُلْتُمْ أيُّها النَّصارى؛ فَإنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الحاجَةَ؛ ويَقْتَضِي التَّرْكِيبَ والمُجانَسَةَ؛ فَلا يَكُونُ واحِدًا؛ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُ﴾؛ أيْ: لِأنَّهُ إلَهٌ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ ﴿ما في السَّماواتِ﴾؛ وأكَّدَ لِأنَّ المَقامَ لَهُ؛ فَقالَ: ﴿وما في الأرْضِ﴾؛ أيْ: خَلْقًا؛ ومِلْكًا؛ ومُلْكًا؛ فَلا يُتَصَوَّرُ أنْ يَحْتاجَ إلى شَيْءٍ مِنهُما؛ ولا إلى شَيْءٍ مُتَحَيِّزٍ فِيهِما؛ ولا يَصِحُّ بِوَجْهٍ أنْ يَكُونَ بَعْضُ ما يَمْلِكُهُ المالِكُ جُزْءًا مِنهُ؛ ووَلَدًا لَهُ؛ وعِيسى وأُمُّهُ - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِن ذَلِكَ؛ وكُلٌّ مِنهُما مُحْتاجٌ إلى ما في الوُجُودِ. ولَمّا كانَ مَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ الَّذِي دَبَّرَهُما وما فِيهِما؛ لِأنَّ الأرْضَ في السَّماءِ؛ وكُلُّ سَماءٍ في الَّتِي فَوْقَها؛ والسّابِعَةُ في الكُرْسِيِّ؛ والكُرْسِيُّ في العَرْشِ؛ وهو ذُو العَرْشِ العَظِيمِ؛ لا نِزاعَ في ذَلِكَ؛ وذَلِكَ هو وظِيفَةُ الوَكِيلِ (p-٥٢٣)بِالحَقِيقَةِ؛ لِيَكْفِيَ مَن وكَّلَهُ كُلَّ ما يُهِمُّهُ؛ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: وهو الوَكِيلُ فِيهِما؛ وفي كُلِّ ما فِيهِما؛ في تَدْبِيرِ مَصالِحِكُمْ؛ فَبَنى عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ﴾؛ أيْ: الَّذِي أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا؛ وقُدْرَةً؛ ﴿وكِيلا﴾؛ أيْ: يَحْتاجُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ؛ ولا يَحْتاجُ هو إلى شَيْءٍ؛ وإلّا لَمّا كانَ كافِيًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب