الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ (تَعالى) ما لِلْمَطْبُوعِ عَلى قُلُوبِهِمُ؛ الغَرِيقِينَ في الكُفْرِ مِنَ العِقابِ؛ بَيَّنَ ما لِنَيِّرِي البَصائِرِ بِالرُّسُوخِ في العِلْمِ؛ والإيمانِ مِنَ الثَّوابِ فَقالَ: ﴿لَكِنِ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ مِنهُمْ﴾؛ أيْ: الَّذِينَ هُيِّئَتْ قُلُوبُهم في أصْلِ الخِلْقَةِ لِقَبُولِ العِلْمِ؛ فَأُبْعِدَ عَنْها الطَّبْعُ؛ وجِلَتْ بِالحِكْمَةِ؛ ورَسَخَتْ بِالرَّحْمَةِ؛ فامْتَلَأتْ مِن نُورِ العِلْمِ؛ وتَمَكَّنَتْ بِأُنْسِ الإيمانِ. ولَمّا ذَكَرَ نَعْتَ العِلْمِ المُفِيدِ لِجَمِيعِ الفَضائِلِ؛ أتْبَعَهُ ما نَشَأ عَنْهُ؛ فَقالَ: ﴿والمُؤْمِنُونَ﴾؛ أيْ: الَّذِينَ هُيِّئُوا لِلْإيمانِ؛ ودَخَلُوا فِيهِ؛ فَصارَ لَهم خُلُقًا لازِمًا؛ مِنهم ومِن غَيْرِهِمْ؛ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ أيْ: يُجَدِّدُونَ الإيمانَ في كُلِّ لَحْظَةٍ؛ ﴿بِما أُنْـزِلَ إلَيْكَ﴾؛ لِأنَّهم أعْرَفُ النّاسِ بِأنَّهُ حَقٌّ؛ ﴿وما أُنْزِلَ مِن (p-٥٠٣)قَبْلِكَ﴾؛ أيْ: عَلى مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وبِسَبَبِ إيمانِهِمُ الخالِصِ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ عَلى عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ ثُمَّ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ. ولَمّا كانَتِ الصَّلاةُ أعْظَمَ دَعائِمِ الدِّينِ؛ ولِذَلِكَ كانَتْ ناهِيَةً عَنِ الفَحْشاءِ؛ والمُنْكَرِ؛ نُصِبَتْ عَلى المَدْحِ مِن بَيْنِ هَذِهِ المَرْفُوعاتِ؛ إظْهارًا لِفَضْلِها؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾؛ أيْ: بِفِعْلِها بِجَمِيعِ حُدُودِها؛ ويَجُوزُ - عَلى بُعْدٍ - أنْ يَكُونَ المُقْتَضِي لِنَصْبِها جَعْلَ ”لَكِنْ“؛ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها بِمَعْنى ”إلّا“؛ وتَضْمِينَها لَفْظَها؛ لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّآخِي؛ فَيَكُونَ المَعْنى أنَّهم مُسْتَثْنَوْنَ مِمَّنْ أُعِدَّ لَهُمُ العَذابُ الألِيمُ؛ عَلى مَعْنى أنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - وهو الفاعِلُ المُخْتارُ - سَبَقَ عِلْمُهُ بِأنَّ مُقِيمَ الصَّلاةِ بِجَمِيعِ حُدُودِها لا يَمُوتُ كَما يَمُوتُ كافِرٌ؛ بَلْ تَنالُهُ بَرَكَتُها؛ فَيَسْلَمُ؛ وهَذا أعْظَمُ مَدْحٍ لَها؛ والحاصِلُ أنَّ ”لَكِنْ“؛ اْسْتُعِيرَتْ لِمَعْنى ”إلّا“؛ بِجامِعِ أنَّ ما بَعْدَ كُلٍّ مِنهُما مُخالِفٌ في الحُكْمِ لِما قَبْلَهُ؛ كَما اسْتُعِيرَتْ ”إلّا“؛ لِمَعْنى ”لَكِنْ“؛ في الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ. ولَمّا كانَ الرُّجُوعُ بِما بَعْدَها إلى الأُسْلُوبِ الماضِي أبْيَنَ في مَدْحِها؛ قالَ: ﴿والمُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾؛ ولَمّا ذَكَرَ أنَّهم جَمَعُوا إلى صِلَةِ الخالِقِ (p-٥٠٤)الإحْسانَ إلى الخَلائِقِ؛ ذَكَرَ الإيمانَ؛ بانِيًا عَلى عَظَمَتِهِ؛ مُفَصِّلًا لَهُ بَعْضَ التَّفْصِيلِ؛ ومُشِيرًا إلى أنَّ نَفْعَهُ؛ كَما يُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ فاتِحًا؛ يُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ خاتِمًا؛ فَقالَ: ﴿والمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أيْ: مُسْتَحْضِرِينَ ما لَهُ مِن صِفاتِ الكَمالِ؛ وضَمَّ إلَيْهِ الحامِلَ عَلى كُلِّ خَيْرٍ؛ والمُقْعِدَ عَنْ كُلِّ شَرٍّ؛ تَرْغِيبًا؛ وتَرْهِيبًا؛ فَقالَ: ﴿واليَوْمِ الآخِرِ﴾؛ فَصارَ الإيمانُ مَذْكُورًا خَمْسَ مَرّاتٍ؛ فَإنَّ هَذِهِ الأوْصافَ لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ؛ عُطِفَتْ بِالواوِ؛ تَفْخِيمًا لَها؛ وإشارَةً إلى أنَّ وصْفَ الرُّسُوخِ في العِلْمِ مُقْتَضٍ لِأنَّهم في الذِّرْوَةِ مِن كُلِّ وصْفٍ مِنها؛ والِاتِّصافُ بِكُلٍّ مِنها يَتَضَمَّنُ الإيمانَ بِيَوْمِ الدِّينِ؛ فَإنَّهُ لا يُمْدَحُ أحَدٌ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنها عَرِيًّا عَنِ الإيمانِ بِهِ؛ لا جَرَمَ نَبَّهَ عَلى فَخامَةِ أمْرِهِمْ؛ وعُلُوِّ شَأْنِهِمْ؛ بِأداةِ البُعْدِ؛ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ﴾؛ أيْ: العالُو الرُّتْبَةِ؛ والهِمَمِ؛ ولِكَوْنِ السِّياقِ في الرّاسِخِينَ؛ العامِلِينَ؛ أنْهى في التَّأْكِيدِ بِالسِّينِ؛ لِأنَّ المَكْرَ هُنا أقَلُّ مِنهُ في الأُولى؛ ولَمْ يُعَرِّفِ الأجْرَ؛ ووَصَفَهُ بِالعِظَمِ؛ فَقالَ: ﴿سَنُؤْتِيهِمْ﴾؛ أيْ: بِعَظَمَتِنا الباهِرَةِ؛ بِوَعْدٍ لا خُلْفَ فِيهِ؛ ﴿أجْرًا عَظِيمًا﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب