الباحث القرآني

ولَمّا أرْشَدَتْ ”أمْ“؛ قَطْعًا؛ في قِراءَةِ مَن شَدَّدَ؛ إدْغامًا لِإحْدى المِيمَيْنِ في الأُخْرى؛ أنَّ التَّقْدِيرَ - شَرْحًا لِأحْوالِ المُؤْمِنِينَ؛ بَعْدَ أحْوالِ المُشْرِكِينَ -: أهَذا الَّذِي يَدْعُو اللَّهَ مَرَّةً؛ وغَيْرَهُ مِمَّنْ يَجْعَلُهُ لَهُ نِدًّا أُخْرى؛ أسَدُّ طَرِيقَةً؛ وأقْوَمُ قِيلًا؛ ﴿أمَّنْ هُوَ﴾؛ والتَّقْدِيرُ في قِراءَةِ نافِعٍ؛ وابْنِ كَثِيرٍ؛ وحَمْزَةَ؛ بِالتَّخْفِيفِ: ”أمَن هو بِهَذِهِ الصِّفَةِ خَيْرٌ؛ أمْ ذَلِكَ الكافِرُ النّاسِي لِمَن أحْسَنَ إلَيْهِ؟“؛ ويُرَجِّحُ التَّقْدِيرُ بِالِاسْتِفْهامِ؛ دُونَ النِّداءِ؛ إنْكارَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ العالِمِ الَّذِي حَداهُ عِلْمُهُ عَلى القُنُوتِ؛ والَّذِي لا يَعْلَمُ حَقِيقَةً؛ أوْ مَجازًا؛ لِعَدَمِ الِانْتِفاعِ بِعِلْمِهِ؛ ﴿قانِتٌ﴾؛ أيْ: مُخْلِصٌ في عِبادَتِهِ اللَّهَ (تَعالى) دائِمًا؛ ﴿آناءَ اللَّيْلِ﴾؛ أيْ: جَمِيعَ ساعاتِهِ. ولَمّا كانَ المَقامُ لِلْإخْلاصِ؛ وكانَ الإخْلاصُ أقْرَبَ مُقَرِّبٍ إلى اللَّهِ؛ لِأنَّهُ التَّجَرُّدُ عَنْ جَمِيعِ الأغْيارِ؛ وكانَ السُّجُودُ ألْيَقَ الأشْياءِ بِهَذا الحالِ؛ ولِذَلِكَ كانَ أقْرَبَ مُقَرِّبٍ لِلْعَبْدِ مِن رَبِّهِ؛ لِأنَّهُ خاصٌّ بِاللَّهِ (تَعالى)؛ قالَ: ﴿ساجِدًا﴾؛ أيْ: وراكِعًا؛ ودَلَّ عَلى تَمَكُّنِهِ مِنَ الوَصْفَيْنِ بِالعَطْفِ؛ فَقالَ: ﴿وقائِمًا﴾؛ أيْ: وقاعِدًا؛ وعَبَّرَ بِالِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلى دَوامِ إخْلاصِهِ في حالِ سُجُودِهِ؛ وقِيامِهِ؛ والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: ذَكَرَ السُّجُودَ دَلِيلًا عَلى الرُّكُوعِ؛ والقِيامَ دَلِيلًا عَلى القُعُودِ؛ والسِّرُّ في ذِكْرِ ما ذَكَرَ؛ وتَرْكِ ما تَرَكَ؛ أنَّ (p-٤٦٧)السُّجُودَ يَدُلُّ عَلى العِبادَةِ؛ وقَرْنُ القِيامِ بِهِ دالٌّ عَلى أنَّهُ قِيامٌ مِنهُ؛ فَهو عِبادَةٌ؛ وذَلِكَ مَعَ الإيذانِ بِأنَّهُما أعْظَمُ الأرْكانِ؛ فَهو نَدْبٌ إلى تَطْوِيلِهِما عَلى الرُّكْنَيْنِ الآخَرَيْنِ؛ لِأنَّ القُعُودَ إنَّما هو لِلرِّفْقِ بِالِاسْتِراحَةِ؛ والرُّكُوعَ إنَّما أُرِيدَ بِهِ إخْلاصَ الأرْكانِ لِلْعِبادَةِ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ عادَةً أنْ يَكُونَ لِغَيْرِها؛ وأمّا السُّجُودُ فَيَطْرُقُهُ احْتِمالُ السُّقُوطِ؛ والقِيامُ والقُعُودُ مِمّا جَرَتْ بِهِ العَوائِدُ؛ فَلَمّا ضَمَّ إلَيْهِما الرُّكُوعَ تَمَحَّضا لِلْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ العَلِيمِ؛ العَزِيزِ؛ الرَّحِيمِ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ مَحَلَّ الفُتُورِ؛ والغَفْلَةِ؛ والنِّسْيانِ؛ وكانَ ذَلِكَ في مَحَلِّ الغُفْرانِ؛ وكانَ لا يُمْكِنُ صَلاحُهُ إلّا بِالخَوْفِ مِنَ المَلِكِ الدَّيّانِ؛ قالَ - مُعَلِّلًا؛ أوْ مُسْتَأْنِفًا؛ جَوابًا لِمَن كَأنَّهُ يَقُولُ: ما لَهُ يُتْعِبُ نَفْسَهُ هَذا التَّعَبَ؛ ويَكِدُّها هَذا الكَدَّ؟ -: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾؛ أيْ: عَذابَ اللَّهِ فِيها؛ فَهو دائِمُ التَّجَدُّدِ لِذَلِكَ كُلَّما غَفَلَ عَنْهُ؛ ولَمّا ذَكَرَ الخَوْفَ؛ أتْبَعَهُ قَرِينَهُ؛ الَّذِي لا يَصِحُّ بِدُونِهِ؛ فَقالَ: ﴿ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَنْقَلِبُ في إنْعامِهِ. ولَمّا كانَ الحامِلُ عَلى الخَوْفِ؛ والرَّجاءِ؛ والعَمَلِ؛ إنَّما هو العِلْمُ النّافِعُ؛ وكانَ العِلْمُ الَّذِي لا يَنْفَعُ كالجَهْلِ؛ أوِ الجَهْلُ خَيْرٌ؛ كانَ جَوابُ ما تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِفْهامِ: لا يَسْتَوِيانِ؛ لِأنَّ المُخْلِصَ عالِمٌ؛ والمُشْرِكَ جاهِلٌ؛ فَأمَرَهُ بِالجَوابِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ﴾؛ أيْ: لا يَسْتَوِيانِ؛ لِأنَّ الحامِلَ عَلى الإخْلاصِ العِلْمُ؛ وعَلى الإشْراكِ الجَهْلُ؛ وقِلَّةُ العَقْلِ؛ ثُمَّ أنْكِرْ عَلى مَن يَشُكُّ في ذَلِكَ؛ فَقُلْ (p-٤٦٨)لَهُ: ﴿هَلْ يَسْتَوِي﴾؛ أيْ: في الرُّتْبَةِ؛ ﴿الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾؛ أيْ: فَيَعْمَلُونَ عَلى مُقْتَضى العِلْمِ؛ فَأدّاهم عِلْمُهم إلى التَّوْحِيدِ؛ والإخْلاصِ في الدِّينِ؛ ﴿والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾؛ فَلَيْسَتْ أعْمالُهم عَلى مُقْتَضى العِلْمِ؛ إمّا لِجَهْلٍ؛ وإمّا لِإعْراضٍ عَنْ مُقْتَضى العِلْمِ؛ فَصارُوا لا عِلْمَ لَهُمْ؛ لِأنَّهُ لا انْتِفاعَ لَهم بِهِ؛ لِأنَّهم لَوْ تَأمَّلُوا أدْنى تَأمُّلٍ؛ مَعَ تَجْرِيدِ الأنْفُسِ مِنَ الهَوى؛ لَرَجَعُوا إلَيْهِ؛ مِن أنَّهُ لا يَرْضى أحَدٌ أصْلًا لِعَبْدِهِ أنْ يُخالِفَ أمْرَهُ؛ وإلى أنَّهُ لا يُطْلَقُ العِلْمُ إلّا عَلى العامِلِ أرْشَدَ قَوْلُ ابْنِ هِشامٍ في السِّيرَةِ؛ ”ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا“؛ أنْ يَقُولَ النّاسُ: عُلَماءُ؛ ولَيْسُوا بِأهْلِ عِلْمٍ؛ لَمْ يَحْمِلُوهم عَلى هُدًى؛ ولا حَقٍّ. ولَمّا كانَ مَدارُ السِّدادِ التَّذَكُّرَ؛ وكانَ مَدارُ التَّذَكُّرِ - الَّذِي بِهِ الصَّلاحُ؛ والفَسادُ - هو القَلْبَ؛ لِأنَّهُ مَرْكَزُ العَقْلِ؛ الَّذِي هو آلَةُ العِلْمِ؛ وكانَ القَلْبُ الَّذِي لا يَحْمِلُ عَلى الصَّلاحِ عَدَمًا؛ بَلِ العَدَمُ خَيْرٌ مِنهُ؛ قالَ: ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ﴾؛ أيْ: تَذَكُّرًا عَظِيمًا؛ بِما أفْهَمَهُ إظْهارُ التّاءِ؛ فَيُعْلَمُ أنَّ المُحْسِنَ لا يَرْضى بِالإحْسانِ إلى مَن يَأْكُلُ خَيْرَهُ ويَعْبُدُ غَيْرَهُ؛ ﴿أُولُو الألْبابِ﴾؛ أيْ: العُقُولِ الصّافِيَةِ؛ والقُلُوبِ النَّيِّرَةِ؛ وهُمُ المَوْصُوفُونَ آخِرَ ”آلِ عِمْرانَ“؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١] إلى (p-٤٦٩)آخِرِها؛ وما أحْسَنَ التَّعْبِيرَ هُنا بِاللُّبِّ؛ الَّذِي هو خُلاصَةُ الشَّيْءِ! لِأنَّ السِّياقَ لِلْإخْلاصِ؛ قالَ الرّازِيُّ في اللَّوامِعِ: قالَ الإمامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: خَلَقَ اللَّهُ (تَعالى) الأشْياءَ مُسَخَّرَةً لِلْآدَمِيِّ؛ وخَلَقَ الآدَمِيَّ لِلْخِدْمَةِ؛ ووَضَعَ فِيهِ أنْوارَهُ؛ لِيُخْرِجَ الخِدْمَةَ لِلَّهِ (تَعالى) مِن باطِنِهِ بِالحاجَةِ؛ فالآدَمِيُّ مَندُوبٌ إلى العِلْمِ بِاللَّهِ (تَعالى)؛ وبِأوامِرِهِ؛ حَسَبَ ما خُلِقَ لَهُ؛ والخِدْمَةُ والقُنُوتُ بِقَلْبِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ ماثِلًا؛ مُنْتَصِبًا؛ مُحِقًّا؛ مُبادِرًا؛ مُسارِعًا؛ سائِقًا مَرْكَبَكَ في جَمِيعِ أُمُورِكَ بِالحُبِّ لَهُ؛ وعِلْمُ الخِدْمَةِ عِلْمُ البِساطَيْنِ: بِساطِ القُدْرَةِ؛ وبِساطِ العُبُودَةِ؛ فَإذا طالَعْتَ بِساطَ القُدْرَةِ بِعَقْلٍ وافِرٍ؛ وهو أنْ تَعْرِفَ نَفْسَكَ؛ وتَرْكِيبَكَ؛ مِن رُوحانِيٍّ؛ وجُسْمانِيٍّ؛ وطالَعْتَ بِساطَ العُبُودَةِ بِكِياسَةٍ تامَّةٍ؛ أدْرَكْتَ تَدْبِيرَهُ في العُبُودَةِ؛ وباطِنَ أمْرِهِ؛ ونَهْيِهِ؛ وعِلَلَ التَّحْرِيمِ؛ والتَّحْلِيلِ؛ وبَسَطَ اللَّهُ بِساطَ الرُّبُوبِيَّةِ مِن بابِ القُدْرَةِ؛ وبَسَطَ بِساطَ العُبُودَةِ مِن بابِ العَظَمَةِ؛ ثُمَّ كانَ آخِرُ خَلْقِهِ - سُبْحانَهُ - هَذا الإنْسانَ؛ الَّذِي بَسَطَ لَهُ هَذَيْنِ البِساطَيْنِ؛ وجَمَعَ فِيهِ العالَمَيْنِ؛ وزادَ عَلى ما فِيهِما مِن قَبُولِ الأمْرِ اخْتِيارًا؛ وطَوْعًا؛ وكُلُّ شَيْءٍ أعْطاكَ إنَّما أعْطاكَ لِتُبْرِزَهُ إلى جَوارِحِكَ؛ وتَسْتَعْمِلَهُ فِيما خُلِقَ لَهُ؛ فَلَوْ لَمْ يُعْطِكَ لَمْ يَطْلُبْ مِنكَ؛ فَلا تُطْلَبُ الزَّكاةُ مِمَّنْ لا مالَ لَهُ؛ ولا الصَّلاةُ قِيامًا مِمَّنْ لا رِجْلَ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب