الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - الَّذِينَ رَكَّبَ فِيهِمُ الشَّهَواتِ؛ وما وصَلُوا إلَيْهِ مِنَ المَقاماتِ؛ أتْبَعَهم أهْلَ الكَراماتِ؛ الَّذِينَ لا شاغِلَ لَهم عَنِ العِباداتِ؛ فَقالَ - صارِفًا الخِطابَ لِعُلُوِّ الخَبَرِ إلى أعْلى الخَلْقِ أنَّهُ لا يَقُومُ بِحَقِّ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُهُ -: ﴿وتَرى﴾؛ مُعَبِّرًا بِأخَصَّ مِنَ الإبْصارِ؛ الأخَصِّ مِنَ النَّظَرِ؛ كَما بَيَّنَ في ”البَقَرَةِ“؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ١٦٥] ﴿المَلائِكَةَ﴾؛ القائِمِينَ بِجَمِيعِ ما عَلَيْهِمْ مِنَ الحُقُوقِ؛ ﴿حافِّينَ﴾؛ أيْ: مُحْدِقِينَ؛ ومُسْتَدِيرِينَ؛ وطائِفِينَ في جُمُوعٍ لا يُحْصِيها إلّا اللَّهُ؛ مِن ”الحَفُّ“؛ وهو الجَمْعُ؛ و”الحَفَّةُ“؛ (p-٥٧١)وهُوَ جَماعَةُ النّاسِ؛ والأعْدادُ الكَثِيرَةُ؛ وهو جَمْعُ ”حافٌّ“؛ وهو الواحِدُ مِنَ الجَماعَةِ المُحْدِقَةِ. ولَمّا كانَ عِظَمُ الشَّيْءِ مِن عِظَمِ صاحِبِهِ؛ وكانَ لا يُحِيطُ بِعَظَمَةِ العَرْشِ حَقَّ الإحاطَةِ إلّا اللَّهُ (تَعالى)؛ أشارَ إلى ذَلِكَ بِإدْخالِ الجارِّ؛ فَقالَ: ﴿مِن حَوْلِ العَرْشِ﴾؛ أيْ: المَوْضِعِ الَّذِي يُدارُ فِيهِ بِهِ؛ ويُحاطُ بِهِ مِنهُ؛ مِن ”الحَوْلُ“؛ وهو الإحاطَةُ؛ والِانْعِطافُ؛ والإدارَةُ؛ مُحْدِقِينَ بِبَعْضِ أحِفَّتِهِ؛ أيْ: جَوانِبِهِ الَّتِي يُمْكِنُ الحُفُوفُ بِها؛ بِالقُرْبِ مِنها؛ يُسْمَعُ لِحُفُوفِهِمْ صَوْتٌ بِالتَّسْبِيحِ؛ والتَّحْمِيدِ؛ والتَّقْدِيسِ؛ والِاهْتِزازِ خَوْفًا مِن رَبِّهِمْ؛ فَإدْخالُ ”مِن“؛ يُفْهِمُ أنَّهم - مَعَ كَثْرَتِهِمْ إلى حَدٍّ لا يُحْصِيهِ إلّا اللَّهُ - لا يَمْلَؤُونَ ما حَوْلَهُ؛ حالَ كَوْنِهِمْ؛ ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ﴾؛ وصَرَفَ القَوْلَ إلى وصْفِ الإحْسانِ؛ مَدْحًا لَهم بِالتَّشْمِيرِ؛ لِشُكْرِ المُنْعِمِ؛ وتَدْرِيبًا لِغَيْرِهِمْ؛ فَقالَ: ﴿رَبِّهِمْ﴾؛ أيْ: يُبالِغُونَ في التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقْصِ؛ بِأنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّهُ مُحْتاجٌ إلى عَرْشٍ؛ أوْ غَيْرِهِ؛ وأنْ يَحْوِيَهُ مَكانٌ؛ مُتَلَبِّسِينَ بِإثْباتِ الكَمالِ لِلْمُحْسِنِ إلَيْهِمْ؛ بِإلْزامِهِمْ بِالعِبادَةِ؛ مِن غَيْرِ شاغِلٍ يَشْغَلُهُمْ؛ ولا مُنازِعٍ مِن شَهْوَةٍ؛ أوْ حَظٍّ يُغْفِلُهُمْ؛ تَلَذُّذًا بِذِكْرِهِ؛ وتَشَرُّفًا بِتَقْدِيسِهِ؛ ولِأنَّ حَقَّهُ إظْهارُ تَعْظِيمِهِ عَلى الدَّوامِ؛ كَما أنَّهُ مُتَّصِلُ الإنْعامِ. ولَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الحُكْمِ بَيْنَ أهْلِ الشَّهَواتِ؛ بِما بَرَزَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّهاداتِ؛ (p-٥٧٢)ذَكَرَ هُنا الحُكْمَ بَيْنَهم وبَيْنَ المَلائِكَةِ؛ الَّذِينَ فاوَضُوا في أصْلِ خَلْقِهِمْ؛ بِقَوْلِهِمْ: ”أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ“؛ الآيَةَ؛ فَقالَ: ﴿وقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أيْ: بَيْنَ أهْلِ الشَّهَواتِ؛ وأهْلِ العِصْمَةِ والثَّباتِ؛ ولَمّا كانَ السِّياقُ عامًّا في التَّرْغِيبِ؛ والتَّرْهِيبِ؛ عَدْلًا؛ وفَضْلًا؛ بِخِلافِ سِياقِ سُورَةِ ”يُونُسَ“ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ قالَ: ﴿بِالحَقِّ﴾؛ بِأنْ طُوبِقَ بِما أنْزَلْنا فِيهِمْ في الكُتُبِ الَّتِي وضَعْناها لِحِسابِهِمُ الواقِعُ؛ فَمَن طَغى مِنهم أسْكَنّاهُ ”لَظى“؛ بِعَدْلِنا؛ ومَنِ اتَّقى نَعَّمْناهُ في جَنَّةِ المَأْوى؛ بِفَضْلِنا؛ لِجِهادِهِمْ ما فِيهِمْ مِنَ الشَّهَواتِ؛ حَتّى ثَبَتُوا عَلى الطّاعاتِ؛ مَعَ ما يَنْزِعُهم مِنَ الطَّبائِعِ إلى الجَهالاتِ؛ وأمّا المَلائِكَةُ فَأبْقَيْناهم عَلى حالِهِمْ في العِباداتِ؛ ﴿وقِيلَ﴾؛ أيْ: مِن كُلِّ قائِلٍ؛ آخِرَ الأُمُورِ كُلِّها؛ ﴿الحَمْدُ﴾؛ أيْ: الإحاطَةُ بِجَمِيعِ أوْصافِ الكَمالِ؛ وعَدَلَ بِالقَوْلِ إلى ما هو حَقٌّ بِهَذا المَقامِ؛ فَقالَ: ﴿لِلَّهِ﴾؛ ذِي الجَلالِ والإكْرامِ؛ عَلِمْنا ذَلِكَ في هَذا اليَوْمِ عَيْنَ اليَقِينِ؛ كَما كُنّا في الدُّنْيا نَعْلَمُهُ عِلْمَ اليَقِينِ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ اليَوْمُ أحَقَّ الأيّامِ بِمَعْرِفَةِ شُمُولِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِاجْتِماعِ الخَلائِقِ؛ وانْفِتاحِ البَصائِرِ؛ وسَعَةِ الضَّمائِرِ؛ قالَ - واصِفًا لَهُ - سُبْحانَهُ - بِأقْرَبِ الصِّفاتِ إلى الِاسْمِ الأعْظَمِ -: ﴿رَبِّ العالَمِينَ﴾؛ أيْ: الَّذِي ابْتَدَأهم (p-٥٧٣)أوَّلًا مِنَ العَدَمِ؛ وأقامَهم ثانِيًا؛ بِما رَبّاهم بِهِ مِنَ التَّدْبِيرِ؛ وأعادَهم ثالِثًا بَعْدَ إفْنائِهِمْ؛ بِأكْمَلِ قَضاءٍ وتَقْدِيرٍ؛ وأبْقاهم رابِعًا؛ لا إلى خَيْرٍ؛ فَقَدْ حَقَّقَ وعْدَهُ؛ كَما أنْزَلَ في كِتابِهِ؛ وصَدَّقَ وعِيدَهُ لِأعْدائِهِ؛ كَما قالَ في كِتابِهِ؛ فَتَحَقَّقَ أنَّهُ تَنْزِيلُهُ؛ فَقَدْ خَتَمَ الأمْرَ بِإثْباتِ الكَمالِ بِاسْمِ الحَمْدِ عِنْدَ دُخُولِ الجِنانِ؛ والنِّيرانِ؛ كَما ابْتَدَأ بِهِ عِنْدَ ابْتِداءِ الخَلْقِ في أوَّلِ الإنْعامِ؛ فَلَهُ الإحاطَةُ بِالكَمالِ في أنَّ الأمْرَ كَما قالَ كِتابُهُ عَلى كُلِّ حالٍ؛ فَقَدِ انْطَبَقَ آخِرُها عَلى أوَّلِها؛ بِأنَّ الكِتابَ تَنْزِيلُهُ لِمُطابَقَةِ كُلِّ ما فِيهِ لِلْواقِعِ؛ عِنْدَما يَأْتِي تَأْوِيلُهُ؛ وبِأنَّ الكِتابَ الحامِلَ عَلى التَّقْوى؛ المُسَبِّبَةِ لِلْجَنَّةِ؛ أُنْزِلَ لِلْإبْقاءِ الأوَّلِ؛ فَمَنِ اتَّبَعَهُ كانَ لَهُ سَبَبًا لِلْإبْقاءِ الثّانِي؛ وهَذا الآخَرُ هو عَيْنُ أوَّلِ سُورَةِ ”غافِرٍ“؛ فَسُبْحانَ مَن أنْزَلَهُ مُعْجِزًا نِظامُهُ؛ فائِتًا القُوى أوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ مِنهُ وخِتامُهُ؛ وصَلّى اللَّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ؛ وآلِهِ؛ وصَحْبِهِ؛ وأهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطّاهِرِينَ؛ وصَحابَتِهِ أجْمَعِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب