الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ أحْوالَ الكافِرِينَ؛ أتْبَعَهُ أحْوالَ أضْدادِهِمْ؛ فَقالَ: ﴿وسِيقَ﴾؛ وسَوْقُهم إلى المَكانِ الطَّيِّبِ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَوْقِفَهم كانَ طَيِّبًا؛ لِأنَّ مَن كانَ في أدْنى نَكَدٍ فَهُيِّئَ لَهُ مَكانٌ هَنِيءٌ؛ لا يَحْتاجُ في الذَّهابِ إلَيْهِ إلى سَوْقٍ؛ فَشَتّانَ ما بَيْنَ السَّوْقَيْنِ؛ هَذا سَوْقُ إكْرامٍ؛ وذاكَ سَوْقُ إهانَةٍ وانْتِقامٍ؛ وهَذا لَعَمْرِي مِن بَدائِعِ أنْواعِ البَدِيعِ؛ وهو أنْ يَأْتِيَ - سُبْحانَهُ - بِكَلِمَةٍ في حَقِّ الكُفّارِ؛ فَتَدُلُّ عَلى هَوانِهِمْ بِعِقابِهِمْ؛ ويَأْتِيَ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ بِعَيْنِها؛ وعَلى هَيْئَتِها في حَقِّ الأبْرارِ فَتَدُلُّ عَلى إكْرامِهِمْ بِحُسْنِ ثَوابِهِمْ؛ فَسُبْحانَ مَن أنْزَلَهُ مُعْجِزَ المَبانِي؛ مُتَمَكِّنَ المَعانِي؛ عَذْبَ المَوارِدِ والمَثانِي. ولَمّا كانَ هَذا لَيْسَ لِجَمِيعِ السُّعَداءِ؛ بَلْ لِلْخُلَّصِ مِنهُمْ؛ دَلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾؛ أيْ: لا جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ؛ ﴿رَبَّهُمْ﴾؛ أيْ: الَّذِينَ كُلَّما زادَهم إحْسانًا زادُوا لَهُ هَيْبَةً؛ رَوى أحْمَدُ؛ وأبُو يَعْلى؛ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ؛ (p-٥٦٨)عَنْ أبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”يَوْمًا كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ“؛ فَقِيلَ: ما أطْوَلُ هَذا اليَوْمَ؟ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ لِيُخَفَّفُ عَلى المُؤْمِنِ حَتّى يَكُونَ عَلَيْهِ أخَفَّ مِن صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ“؛» ورَوى الطَّبَرانِيُّ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «”تَجْتَمِعُونَ يَوْمَ القِيامَةِ...“؛ فَذَكَرَ الحَدِيثَ؛ حَتّى قالَ: قالُوا: فَأيْنَ المُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: ”تُوضَعُ لَهم كَراسِيُّ مِن نُورٍ؛ ويُظَلَّلُ عَلَيْهِمُ الغَمامُ؛ يَكُونُ ذَلِكَ اليَوْمُ أقْصَرَ عَلى المُؤْمِنِينَ مِن ساعَةٍ مِن نَهارِ“؛» ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ السَّوْقُ إشارَةً إلى قَسْرِ المَقادِيرِ لِلْفَرِيقَيْنِ عَلى الأفْعالِ الَّتِي هي أسْبابُ الدّارَيْنِ؛ ﴿إلى الجَنَّةِ زُمَرًا﴾؛ أهْلُ الصَّلاةِ؛ المُنْقَطِعِينَ إلَيْها؛ المُسْتَكْثِرِينَ مِنها؛ عَلى حِدَةٍ؛ وأهْلُ الصَّوْمِ كَذَلِكَ؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي تَظْهَرُ آثارُها عَلى الوُجُوهِ. ولَمّا ذَكَرَ السَّوْقَ؛ ذَكَرَ غايَتَهُ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى إذا جاءُوها﴾؛ ولَمّا كانَ إغْلاقُ البابِ عَنِ الآتِي يَدُلُّ عَلى تَهاوُنٍ بِهِ؛ وفي وُقُوفِهِ إلى أنْ يُفْتَحَ لَهُ نَوْعُ هَوانٍ؛ قالَ: ﴿وفُتِحَتْ﴾؛ أيْ: والحالُ أنَّها قَدْ فُتِحَتْ ﴿أبْوابُها﴾؛ أيْ: إكْرامًا لَهُمْ؛ قَبْلَ وُصُولِهِمْ إلَيْها؛ بِنَفْسِ الفَتْحِ؛ وبِما يَخْرُجُ إلَيْهِمْ (p-٥٦٩)مِن رائِحَتِها؛ ويَرَوْنَ مِن زَهْرَتِها؛ وبَهْجَتِها؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهم سائِقًا ثانِيًا إلى ما لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ؛ ولا رَأوْا عَنْهُ ثانِيًا. ولَمّا ذَكَرَ إكْرامَهم بِأحْوالِ الدّارِ؛ ذَكَرَ إكْرامَهم بِالخَزَنَةِ الأبْرارِ؛ فَقالَ - عَطْفًا عَلى جَوابِ ”إذا“؛ بِما تَقْدِيرُهُ: ”تَلَقَّتْهم خَزَنَتُها بِكُلِّ ما يَسُرُّهُمْ“ -: ﴿وقالَ لَهم خَزَنَتُها﴾؛ أيْ: حِينَ الوُصُولِ؛ ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾؛ تَعْجِيلًا لِلْمَسَرَّةِ لَهُمْ؛ بِالبِشارَةِ بِالسَّلامَةِ؛ الَّتِي لا عَطَبَ فِيها؛ ولَمّا كانَتْ دارًا لا تَصْلُحُ إلّا لِلْمُطَهَّرِينَ؛ قالُوا: ﴿طِبْتُمْ﴾؛ أيْ: صَلَحْتُمْ لِسُكْناها؛ فَلا تَحَوُّلَ لَكم عَنْها أصْلًا؛ ثُمَّ سَبَّبُوا عَنْ ذَلِكَ - تَنْبِيهًا عَلى أنَّها دارُ الطِّيبِ؛ فَلا يَدْخُلُها إلّا مُناسِبٌ لَها - قَوْلَهُمْ: ﴿فادْخُلُوها﴾؛ فَأنْتَجَ ذَلِكَ: ﴿خالِدِينَ﴾؛ ولَعَلَّ فائِدَةَ الحَذْفِ لِجَوابِ ”إذا“؛ أنْ تَذْهَبَ النَّفْسُ فِيهِ مِنَ الإكْرامِ كُلَّ مُذْهَبٍ؛ وتَعْلَمَ أنَّهُ لا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ؛ ومِن أنْسَبِ الأشْياءِ أنْ يَكُونَ دُخُولُهم مِن غَيْرِ مانِعٍ مِن إغْلاقِ بابٍ؛ أوْ مَنعِ بَوّابٍ؛ بَلْ مَأْذُونًا لَهُمْ؛ مُرَحَّبًا بِهِمْ إلى مِلْكِ الأبَدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب