الباحث القرآني

ولَمّا ظَهَرَتِ الأدِلَّةُ؛ وبَهَرَتِ الحُجَجُ؛ بَيَّنَ ما عَلى مَن غَطّاها بِالإصْرارِ؛ وما لِمَن تابَ ورَجَعَ بِالتَّذْكارِ؛ فَقالَ - مُسْتَأْنِفًا لِما هو نَتِيجَةُ ما مَضى؛ مُعَرِّفًا لَهم نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ؛ بِأنَّهُ ما تُعُبِّدَ لِشَيْءٍ يَخُصُّهُ مِن نَفْعٍ؛ أوْ ضُرٍّ؛ وإنَّما هو لِمَصالِحِهِمْ خاصَّةً؛ بادِئًا بِما هو مِن دَرْءِ المَفاسِدِ -: ﴿إنْ تَكْفُرُوا﴾؛ (p-٤٦٠)أيْ: تَسْتُرُوا الأدِلَّةَ؛ فَتُصِرُّوا عَلى الِانْصِرافِ عَنْهُ بِالإشْراكِ؛ ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾؛ لِأنَّهُ جامِعٌ لِصِفاتِ الكَمالِ؛ ﴿غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾؛ أيْ: فَلا يَضُرُّهُ كُفْرُكُمْ؛ ولا تَنْفَعُهُ طاعَتُكُمْ؛ وأمّا أنْتُمْ فَلا غِنى لَكم عَنْهُ بِوَجْهٍ؛ ولا بُدَّ أنْ يَحْكُمَ بَيْنَكُمْ؛ فَلَمْ تَضُرُّوا إلّا أنْفُسَكُمْ؛ ﴿ولا يَرْضى﴾؛ لَكم - هَكَذا كانَ الأصْلُ؛ بِدَلِيلِ ما سَبَقَهُ؛ ولَحِقَهُ -؛ وإنَّما أظْهَرَ؛ لِيَعُمَّ؛ ولِيُذَكِّرَهم بِما يَجِدُونَهُ في أنْفُسِهِمْ مِن أنَّ أحَدًا مِنهم لا يَرْضى لِعِبادِهِ أنْ يُؤَدّى خَراجُهُ إلى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَقالَ: ﴿لِعِبادِهِ﴾؛ أيْ: الَّذِينَ تَفَرَّدَ بِإيجادِهِمْ؛ وتَرْبِيَتِهِمْ؛ ﴿الكُفْرَ﴾؛ بِالإقْبالِ عَلى سِواهُ؛ وأنْتُمْ لا تَرْضَوْنَ ذَلِكَ لِعَبِيدِكُمْ؛ مَعَ أنَّ مِلْكَكم لَهم في غايَةِ الضَّعْفِ؛ ومَعْنى عَدَمِ الرِّضا أنَّهُ لا يَفْعَلُ فِعْلَ الرّاضِي؛ بِأنْ يَأْذَنَ فِيهِ؛ ويُقِرَّ عَلَيْهِ؛ أوْ يُثِيبَ فاعِلَهُ؛ ويَمْدَحَهُ؛ بَلْ يَفْعَلُ فِعْلَ السّاخِطِ؛ بِأنْ يَنْهى عَنْهُ؛ ويَذُمَّ عَلَيْهِ؛ ويُعاقِبَ مُرْتَكِبَهُ؛ ﴿وإنْ تَشْكُرُوا﴾؛ أيْ: بِالعِبادَةِ؛ والإخْلاصِ فِيها؛ ﴿يَرْضَهُ﴾؛ أيْ: الشُّكْرَ؛ الدّالَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ؛ ﴿لَكُمْ﴾؛ أيْ: الرِّضا اللّائِقَ بِجَنابِهِ - سُبْحانَهُ - بِأنْ يُقِرَّكم عَلَيْهِ؛ أوْ يَأْمُرَكم بِهِ؛ ويُثِيبَكم عَلى فِعْلِهِ؛ والقِسْمانِ بِإرادَتِهِ؛ واخْتِلافُ القُرّاءِ في هائِهِ دالٌّ عَلى مَراتِبِ الشُّكْرِ - واللَّهُ أعْلَمُ -؛ فالوَصْلُ لِلْواصِلِينَ إلى النِّهايَةِ؛ عَلى اخْتِلافِ مَراتِبِهِمْ في (p-٤٦١)الوُصُولِ؛ والِاخْتِلاسُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ؛ والإسْكانُ لِمَن في الدَّرَجَةِ الأُولى مِنهُ. ولَمّا كانَ في سِياقِ الحُكْمِ والقَهْرِ؛ وكانَتْ عادَةُ القَهّارِينَ أنْ يُكَلِّفُوا بَعْضَ النّاسِ بِبَعْضٍ؛ ويَأْخُذُوهم بِجَوائِرِهِمْ؛ لِيَنْتَظِمَ لَهُمُ العُلُوُّ عَلى الكُلِّ؛ لِعَدَمِ إحاطَةِ عِلْمِهِمْ بِكُلِّ مُخالِفٍ لِأمْرِهِمْ؛ بَيَّنَ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - عَلى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَقالَ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾؛ أيَّ وازِرَةٍ كانَتْ؛ ﴿وِزْرَ أُخْرى﴾؛ بَلْ وِزْرُ كُلِّ نَفْسٍ عَلَيْها؛ لا يَتَعَدّاها؛ يُحْفَظُ عَلَيْها مُدَّةَ كَوْنِها في دارِ العَمَلِ؛ والإثْمُ الَّذِي يُكْتَبُ عَلى الإنْسانِ بِتَرْكِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ؛ لَيْسَ وِزْرَ غَيْرِهِ؛ وإنَّما هو وِزْرُ نَفْسِهِ؛ فَوِزْرُ الفاعِلِ عَلى الفِعْلِ؛ ووِزْرُ السّاكِتِ عَلى التَّرْكِ؛ لِما لَزِمَهُ مِنَ الأمْرِ؛ والنَّهْيِ؛ ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ﴾؛ أيْ: وحْدَهُ؛ لا إلى أحَدٍ مِمَّنْ أشْرَكْتُمُوهُ بِهِ؛ ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أيْ: بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ؛ إلى دارِ الجَزاءِ؛ ولَمّا كانَ الجَزاءُ تابِعًا لِلْعِلْمِ؛ قالَ - مُعَبِّرًا عَنْهُ بِهِ -: ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أيْ: فَيَتَسَبَّبُ عَنِ البَعْثِ أنَّهُ يُخْبِرُكم إخْبارًا عَظِيمًا؛ ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أيْ: بِما كانَ في طَبْعِكُمُ العَمَلُ بِهِ؛ سَواءٌ عَمِلْتُمُوهُ بِالفِعْلِ أمْ لا؛ ثُمَّ يُجازِيكم عَلَيْهِ إنْ شاءَ. ولَمّا كانَ المُرادُ - كَما أشارَ إلَيْهِ بِـ ”كانَ“ - الإخْبارَ بِجَمِيعِ الأعْمالِ الكائِنَةِ بِالفِعْلِ؛ أوِ القُوَّةِ؛ حَسُنَ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ﴾؛ أيْ: بالِغُ العِلْمِ؛ ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أيْ: بِصاحِبَتِها؛ مِنَ الخَواطِرِ؛ والعُزُومِ؛ وذَلِكَ بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ الصُّحْبَةُ: كُلُّ ما لَمْ يَبْرُزْ إلى الخارِجِ؛ فَهو بِما بَرَزَ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب