الباحث القرآني

(p-٤٣٦)سُورَةُ ”الزُّمَرِ“ مَقْصُودُها الدَّلالَةُ عَلى أنَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - صادِقُ الوَعْدِ؛ وأنَّهُ غالِبٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَلا يَعْجَلُ؛ لِأنَّهُ لا يَفُوتُهُ شَيْءٌ؛ ويَضَعُ الأشْياءَ في أوْفَقِ مَحالِّها؛ يَعْرِفُ ذَلِكَ أُولُو الألْبابِ؛ المُمَيِّزُونَ بَيْنَ القِشْرِ؛ واللُّبابِ؛ وعَلى ذَلِكَ دَلَّتْ تَسْمِيَتُها ”الزُّمَرُ“؛ لِأنَّها إشارَةٌ إلى أنَّهُ أنْزَلَ كُلًّا مِنَ المَحْشُورِينَ دارَهُ المُعَدَّةَ لَهُ؛ بَعْدَ الإعْذارِ في الإنْذارِ؛ والحُكْمِ بَيْنَهم بِما اسْتَحَقَّتْهُ أعْمالُهُمْ؛ عَدْلًا مِنهُ - سُبْحانَهُ - في أهْلِ النّارِ؛ وفَضْلًا عَلى المُتَّقِينَ الأبْرارِ؛ وكَذا تَسْمِيَتُها ”تَنْزِيلٌ“؛ لِمَن تَأمَّلَ آيَتَها؛ وحَقَّقَ عِبارَتَها وإشارَتَها؛ وكَذا ”الغُرَفُ“؛ لِأنَّها إشارَةٌ إلى حُكْمِهِ - سُبْحانَهُ - في الفَرِيقَيْنِ؛ أهْلِ الظُّلَلِ النّارِيَّةِ؛ والغُرَفِ النُّورِيَّةِ؛ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِأشْرَفِ جُزْأيْهِ؛ فالقَوْلُ فِيها كالقَوْلِ في ”الزُّمَرِ“؛ سَواءٌ؛ ويَزِيدُ أهْلَ الغُرَفِ خِتامُ آيَتِهِمْ: ”وعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ المِيعادَ“. ”بِسْمِ اللَّهِ“؛ الَّذِي تَمَّتْ كَلِمَتُهُ فَعَزَّ أمْرُهُ؛ ”الرَّحْمَنِ“؛ الَّذِي وضَعَ رَحْمَتَهُ العامَّةَ أحَكَمَ وضْعٍ؛ فَدَقَّ لِذِي الأفْهامِ سِرُّهُ؛ ”الرَّحِيمِ“؛ الَّذِي خَصَّ أوْلِياءَهُ بِالتَّوْفِيقِ لِطاعَتِهِ؛ فَعَمَّهم بِرُّهُ. (p-٤٣٧)لَمّا تَبَيَّنَ مِنَ التَّهْدِيدِ في ”ص“؛ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - قادِرٌ عَلى ما يُرِيدُ؛ ثُمَّ خَتَمَها بِأنَّ القُرْآنَ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ؛ وأنَّ كُلَّ ما فِيهِ لا بُدَّ أنْ يُرى؛ لِأنَّهُ واقِعٌ لا مَحالَةَ؛ لَكِنْ مِن غَيْرِ عَجَلَةٍ؛ فَكانُوا رُبَّما قالَ مُتَعَنِّتُهُمْ: ما لَهُ إذا كانَ قادِرًا لا يُعَجِّلُ ما يُرِيدُهُ بَعْدَ حِينٍ؟ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّهُ ﴿تَنْـزِيلُ﴾؛ أيْ: بِحَسَبِ التَّدْرِيجِ؛ لِمُوافَقَةِ المَصالِحِ في أوْقاتِها؛ وتَقْرِيبِهِ لِلْأفْهامِ؛ عَلى ما لَهُ مِنَ العُلُوِّ؛ حَتّى صارَ ذِكْرًا لِلْعالَمِينَ؛ ووَضَعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ قَوْلَهُ: ﴿الكِتابِ﴾؛ لِلدَّلالَةِ عَلى جَمْعِهِ لِكُلِّ صَلاحٍ؛ أيْ لا بُدَّ أنْ يُرى جَمِيعُ ما فِيهِ؛ لِأنَّ الشَّأْنَ العَظِيمَ إنْزالُهُ عَلى سَبِيلِ التَّنْجِيمِ؛ لِلتَّقْرِيبِ في فَهْمِهِ؛ وإيقاعِ كُلِّ شَيْءٍ مِنهُ في أحْسَنِ أوْقاتِهِ؛ مِن غَيْرِ عَجَلَةٍ؛ ولا تَوانٍ؛ ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ هَذا التَّنْزِيلِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أيْ: المُتَّصِفِ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ؛ ﴿العَزِيزِ﴾؛ فَلا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ؛ وهو يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ؛ ﴿الحَكِيمِ﴾؛ الَّذِي يَضَعُ الأشْياءَ في مَحالِّها الَّتِي هي أوْفَقُ لَها؛ فَلِكَوْنِهِ مِنهُ؛ لا مِن غَيْرِهِ؛ كانَ ذِكْرًا لِلْعالَمِينَ؛ صادِقًا في كُلِّ ما يُخْبِرُ بِهِ؛ حَكِيمًا في جَمِيعِ أُمُورِهِ. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا بُنِيَتْ سُورَةُ ”ص“؛ عَلى ذِكْرِ المُشْرِكِينَ؛ وعِنادِهِمْ؛ وسُوءِ ارْتِكابِهِمْ؛ واتِّخاذِهِمُ الأنْدادَ والشُّرَكاءَ؛ ناسَبَ ذَلِكَ ما افْتُتِحَتْ بِهِ سُورَةُ ”الزُّمَرِ“؛ مِنَ الأمْرِ بِالإخْلاصِ؛ الَّذِي هو نَقِيضُ (p-٤٣٨)حالِ مَن تَقَدَّمَ؛ وذِكْرِ ما عَنْهُ يَكُونُ؛ وهو الكِتابُ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿تَنْـزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ ﴿إنّا أنْـزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: ٢] ﴿ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾ [الزمر: ٣]؛ وجاءَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾ [الزمر: ٣]؛ الآيَةَ؛ في مَعْرِضِ أنْ لَوْ قِيلَ: عَلَيْكَ بِالإخْلاصِ؛ ودَعْ مَن أشْرَكَ ولَمْ يُخْلِصْ؛ فَسَتَرى حالَهُ؛ وهَلْ يَنْفَعُهُمُ اعْتِذارُهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿ما نَعْبُدُهم إلا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزمر: ٣]؛ وهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ بُنِيَتْ سُورَةُ ”ص“؛ عَلى ذِكْرِهِمْ؛ ثُمَّ وبَّخَهُمُ اللَّهُ (تَعالى)؛ وقَرَّعَهُمْ؛ فَقالَ: ﴿لَوْ أرادَ اللَّهُ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا لاصْطَفى﴾ [الزمر: ٤]؛ الآيَةَ؛ فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ عَظِيمِ مُرْتَكَبِهِمْ؛ بِقَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿هُوَ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ [الزمر: ٤]؛ ثُمَّ ذَكَّرَ بِما فِيهِ أعْظَمُ شاهِدٍ؛ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ؛ وتَكْوِيرِ اللَّيْلِ عَلى النَّهارِ؛ وتَكْوِيرِ النَّهارِ عَلى اللَّيْلِ؛ وذِكْرِ آيَتَيِ النَّهارِ؛ واللَّيْلِ؛ ثُمَّ خَلْقِ الكُلِّ؛ مِنَ البَشَرِ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ؛ وهي نَفْسُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ولَمّا حَرَّكَ (تَعالى) إلى الِاعْتِبارِ بِعَظِيمِ هَذِهِ الآياتِ؛ وكانَتْ أوْضَحَ شَيْءٍ؛ وأدَلَّ شاهِدٍ؛ عَقَّبَ ذَلِكَ بِما يُشِيرُ إلى مَعْنى التَّعَجُّبِ مِن تَوَقُّفِهِمْ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلائِلِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ (تَعالى) أنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الكُلِّ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ [الزمر: ٧]؛ ثُمَّ قالَ: (p-٤٣٩)﴿ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧]؛ فَبَيَّنَ أنَّ مَنِ اصْطَفاهُ؛ وقَرَّبَهُ؛ واجْتَباهُ مِنَ العِبادِ؛ لا يَرْضى لَهُ بِالكُفْرِ؛ وحَصَلَ مِن ذَلِكَ مَفْهُومُ الكَلامِ؛ أنَّ الواقِعَ مِنَ الكُفْرِ إنَّما وقَعَ بِإرادَتِهِ؛ ورِضاهُ؛ لِمَنِ ابْتَلاهُ بِهِ؛ ثُمَّ آنَسَ مَن آمَنَ ولَمْ يَتَّبِعْ سَبِيلَ الشَّيْطانِ وقَبِيلِهِ؛ مِنَ المُشارِ إلَيْهِمْ في السُّورَةِ قَبْلُ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الزمر: ٧] ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ﴾ [الإسراء: ٧] ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْها﴾ [الأنعام: ١٦٤]؛ ثُمَّ تَناسَجَتِ الآيُ؛ والتَحَمَتِ الجُمَلُ إلى خاتِمَةِ السُّورَةِ؛ انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب