الباحث القرآني

(p-٢٦٣)ولَمّا كانَتِ البُشْرى مِنَ اللَّهِ لا تَتَخَلَّفُ؛ كانَ التَّقْدِيرُ: ”فَوُلِدَ لَهُ غُلامٌ كَما قُلْنا“؛ ﴿فَلَمّا بَلَغَ﴾؛ أنْ يَسْعى كائِنًا؛ ﴿مَعَهُ﴾؛ أيْ: مَعَ أبِيهِ خاصَّةً؛ ومُصاحِبًا لَهُ؛ ﴿السَّعْيَ﴾؛ الَّذِي يَرْضى بِهِ الأبُ؛ ويُوَطِّنُ نَفْسَهُ عِنْدَهُ عَلى الوَلَدِ؛ ويَثِقُ بِهِ؛ ولا يَتَعَلَّقُ مَعَ مَبْلَغٍ؛ لِاقْتِضائِهِ بُلُوغَهُما مَعًا حَدَّ السَّعْيِ؛ ولا مَعْنى لِذَلِكَ في حَقِّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ولا بِالسَّعْيِ؛ لِأنَّ صِلَةَ المَصْدَرِ لا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ؛ ولَوْ أُخِّرَ عَنْهُ لَمْ يُفِدْ الِاخْتِصاصَ المُفْهِمَ لِصِغَرِ سِنِّهِ؛ المُفِيدِ لِلْإعْلامِ بِأنْ يَبْلُغَ في ذَلِكَ مَعَهُ ما لا يَبْلُغُهُ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِعَظِيمِ شَفَقَةِ الأبِ؛ واسْتِحْكامِ مَيْلِ الِابْنِ؛ المُوجِبِ لِطاعَتِهِ؛ واخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِالسِّنِّ؛ فَقالَ بَعْضُهُمْ: ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ وبَعْضُهُمْ: سَبْعُ سِنِينَ؛ ولِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِالأبِ؛ لِأنَّ غَيْرَهُ لا يُشْفِقُ عَلى الوَلَدِ؛ فَيُكَلِّفُهُ ما لَيْسَ في وُسْعِهِ؛ وهو لَمْ يَبْلُغْ كَمالَ السَّعْيِ؛ ﴿قالَ﴾؛ أيْ: إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿يا بُنَيَّ﴾؛ مُنادِيًا لَهُ بِصِيغَةِ التَّعَطُّفِ؛ والشَّفَقَةِ؛ والتَّحَبُّبِ؛ ذاكِرًا لَهُ بِالمُضارِعِ الحالَ الَّذِي رَآهُ عَلَيْهِ؛ ومُصَوِّرًا لَهُ؛ لا لِتَكْرارِ الرُّؤْيا؛ فَإنَّهُ غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى التَّكْرارِ؛ ولا إلى التَّرَوِّي؛ فَإنَّ اللَّهَ (تَعالى) أراهُ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ؛ وأكَّدَ - لِما في طِباعِ البَشَرِ مِن إحالَةِ أنْ يُقالَ ذَلِكَ عَلى حَقِيقَتِهِ -؛ وإعْلامًا بِأنَّهُ مَنامُ وحْيٍ؛ لا أضْغاثُ أحْلامٍ؛ (p-٢٦٤)﴿إنِّي أرى في المَنامِ﴾؛ أيْ: وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ وحْيٌ؛ ﴿أنِّي أذْبَحُكَ﴾؛ أيْ: أُعالِجُ ذَبْحَكَ في اليَقَظَةِ؛ بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ (تَعالى)؛ ولِذَلِكَ كانَ كَما قالَ؛ ولَوْ عَبَّرَ بِالماضِي لَمَضى وتَمَّ؛ وإنَّما كانَ في المَنامِ في هَذا الأمْرِ الخَطِرِ جِدًّا؛ لِيُعْلَمَ وُثُوقُ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - بِما يَأْتِيهِمْ عَنِ اللَّهِ في كُلِّ حالٍ. ولَمّا كانَ الأنْبِياءُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - أشْفَقَ النّاسِ؛ وأنْصَحَهُمْ؛ أحَبَّ أنْ يَرى ما عِنْدَهُ؛ فَإنْ كانَ عَلى ما يُحِبُّ سُرَّ؛ وثَبَّتَهُ؛ وإلّا سَعى في جَعْلِهِ عَلى ما يُحِبُّ؛ فَيَلْقى البَلاءَ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ؛ ويَكُونُ ذَلِكَ أعْظَمَ لِأجْرِهِ؛ لِتَمامِ انْقِيادِهِ؛ ولِتَكُونَ المُشاوَرَةُ سُنَّةً؛ فَإنَّهُ «”ما نَدِمَ مَنِ اسْتَشارَ“؛» سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿فانْظُرْ﴾؛ بِعَيْنِ بَصِيرَتِكَ؛ ﴿ماذا﴾؛ أيْ: ما الَّذِي؛ ﴿تَرى﴾؛ أيْ: في هَذِهِ الرُّؤْيا؛ فَهو اخْتِبارٌ لِصَبْرِهِ؛ لا مُؤامَرَةٌ لَهُ؛ ﴿قالَ﴾؛ تَصْدِيقًا لِثَناءِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالحِلْمِ؛ ﴿يا أبَتِ﴾؛ تَأدُّبًا مَعَهُ؛ بِما دَلَّ عَلى التَّعْظِيمِ؛ والتَّوْقِيرِ؛ ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾؛ أيْ: كُلَّ شَيْءٍ وقَعَ لَكَ بِهِ أمْرٌ مِنَ اللَّهِ (تَعالى) ويَتَجَدَّدُ لَكَ بِهِ أمْرٌ مِنهُ - سُبْحانَهُ -؛ لِأنِّي لا أتَّهِمُكَ في شَفَقَتِكَ؛ وحُسْنِ نَظَرِكَ؛ ولا أتَّهِمُ اللَّهَ في قَضائِهِ؛ والقِصَّةُ دَلِيلٌ عَلى وُقُوعِ الأمْرِ؛ بِالمُمْتَنِعِ لِغَيْرِهِ؛ ولِأكْثَرِ الأوامِرِ مِنهُ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في ”البَقَرَةِ“؛ عِنْدَ: ”أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ“. (p-٢٦٥)ولَمّا عَلِمَ طاعَتَهُ؛ تَشَوَّفَ السّامِعُ إلى اسْتِسْلامِهِ وصَبْرِهِ؛ فاسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ: ﴿سَتَجِدُنِي﴾؛ أيْ: بِوَعْدٍ جازِمٍ؛ لا تَرَدُّدَ فِيهِ؛ صادِقٍ؛ كَما أخْبَرَ اللَّهُ (تَعالى) عَنْهُ؛ لا خُلْفَ فِيهِ؛ وكانَ صادِقَ الوَعْدِ. ولَمّا كانَ مِن أخْلاقِ الكُمَّلِ عَدَمُ القَطْعِ في المُسْتَقْبَلاتِ؛ لِما يَعْلَمُونَ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ (تَعالى) عَلى نَقْضِ العَزائِمِ؛ بِالحَيْلُولَةِ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ؛ قالَ: ﴿إنْ شاءَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي اخْتَصَّ بِالإحاطَةِ بِصِفاتِ الكَمالِ؛ وأكَّدَ وعْدَهُ بِهَذا الأمْرِ؛ الَّذِي لا يَكادُ يُصَدَّقُ مِثْلُهُ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الصّابِرِينَ﴾؛ أيْ: العَرِيقِينَ في الصَّبْرِ؛ البالِغِينَ فِيهِ حَدَّ النِّهايَةِ؛ وهو مِن أعْظَمِ ما أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤] ؎ولَوْ بِيَدِ الحَبِيبِ سُقِيتُ سُمًّا ∗∗∗ لَكانَ السُّمُّ مِن يَدِهِ يَطِيبُ وجَعَلَ هَذا الأمْرَ العَظِيمَ في المَنامِ دَلالَةً عَلى صِدْقِ أحْوالِ الأنْبِياءِ؛ نَوْمًا ويَقَظَةً؛ وصِدْقِ عَزائِمِهِمْ؛ وانْقِيادِهِمْ لِجَمِيعِ الأوامِرِ في جَمِيعِ الأحْوالِ؛ ورُوِيَ أنَّ الشَّيْطانَ وسْوَسَ لَهُ في ذَبْحِهِ؛ فَعَرَفَهُ؛ فَرَماهُ بِسَبْعِ حَصَياتٍ؛ فَصارَ ذَلِكَ شَرِيعَةً في الجِمارِ؛ ومِن ألْطَفِ ما في ذَلِكَ أنَّهم لَمّا كانُوا في نِهايَةِ التَّجَرُّدِ عَنْ عَلائِقِ الشَّواغِلِ جُعِلَتْ أفْعالُهم شَعائِرَ؛ وشَرائِعَ لِعِبادَةِ الحَجِّ؛ الَّتِي رُوحُها التَّجَرُّدُ لِلْوُفُودِ إلى اللَّهِ (تَعالى).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب