الباحث القرآني

(p-١٨٦)سُورَةُ ”الصّافّاتِ“ مَقْصُودُها الِاسْتِدْلالُ عَلى آخِرِ ”يـس“؛ مِنَ التَّنَزُّهِ عَنِ النَّقائِصِ؛ اللّازِمِ مِنهُ رَدُّ العِبادِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهم بِالعَدْلِ؛ اللّازِمِ مِنهُ الوَحْدانِيَّةُ؛ وذَلِكَ هو المَعْنى الَّذِي أشارَ إلَيْهِ وسْمُها بِـ ”الصّافّاتِ“؛ ”وإنّا لَنَحْنُ الصّافُّونَ وإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ“. ”بِسْمِ اللَّهِ“؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ المُطْلَقُ؛ فَلا يَدْنُو مِن جَنابِهِ نَقْصٌ؛ ”الرَّحْمَنِ“؛ الَّذِي مَنَّ بِرَحْمَةِ العَدْلِ في الدّارَيْنِ؛ ”الرَّحِيمِ“؛ الَّذِي يَمُنُّ عَلى مَن يُرِيدُ بِالطّاعَةِ بِالثَّوابِ؛ والمَتابِ؛ لِإسْقاطِ العِقابِ. لَمّا كانَ الِانْفِرادُ بِالمَلَكُوتِ لا يَكُونُ إلّا مَعَ الوَحْدانِيَّةِ بِالذّاتِ؛ وفي ذَلِكَ اسْتِحْقاقُ الِاخْتِصاصِ بِالإلَهِيَّةِ؛ وكانَ ذَلِكَ - مَعَ أنَّهُ بِحَيْثُ لا يَخْفى عَلى ذِي لُبٍّ - عِنْدَهم في غايَةِ البُعْدِ؛ ولِذَلِكَ لا يُسَلِّمُونَ ما يَتَعَلَّقُ بِالمَلَكُوتِ؛ ويُنْكِرُونَهُ غايَةَ الإنْكارِ؛ ناسَبَ أنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ. ولَمّا كانَ مِنَ البَلاغَةِ أنْ يُناسِبَ بَيْنَ القَسَمِ والمُقْسَمِ عَلَيْهِ؛ وكانَ الِاصْطِفافُ دالًّا عَلى اتِّحادِ القَصْدِ؛ كَما في صُفُوفِ القِتالِ؛ والصَّلاةِ؛ وكانَ المَلائِكَةُ لا قَصْدَ لَهم إلّا اللَّهُ؛ مِن غَيْرِ عائِقٍ عَنْ ذَلِكَ؛ فَكانُوا أحَقَّ الخَلْقِ بِالِاصْطِفافِ؛ تارَةً لِلصَّلاةِ؛ وتارَةً لِلتَّسْبِيحِ؛ والتَّقْدِيسِ؛ وتارَةً (p-١٨٧)لِتَدْبِيرِ الأرْزاقِ؛ وتارَةً لِتَعْذِيبِ أهْلِ الشِّقاقِ؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي لا تَسَعُها الصُّدُورُ؛ وكانُوا بَعْدَ زَجْرَةِ الإماتَةِ؛ ثُمَّ زَجْرَةِ الإحْياءِ؛ المُصَرَّحِ بِهِما في السُّورَةِ الماضِيَةِ؛ ثُمَّ زَجْرَتَيِ الصَّعْقِ؛ والإفاقَةِ؛ الآتِيَتَيْنِ في ”الزُّمَرِ“؛ حِينَ تَشَقُّقُ السَّماءُ بِالغَمامِ؛ وتَكُونُ ورْدَةً كالدِّهانِ؛ وتَنْفَطِرُ بِسَطْوَةِ المَلِيكِ الدَّيّانِ؛ ويَنْكَدِرُ ما فِيها مِن أجْرامٍ؛ ومَعانٍ؛ تَنْزِلُ مَلائِكَةُ كُلِّ سَماءٍ؛ فَتَصِيرُ صَفًّا مُسْتَدِيرًا؛ مَلائِكَةُ الأُولى حَوْلَ أهْلِ الأرْضِ؛ ومَلائِكَةُ الثّانِيَةِ حَوْلَ مَلائِكَةِ الأُولى؛ وهَكَذا؛ ثُمَّ يَصِيرُونَ إذا قِيلَ: ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِن أقْطارِ السَّماواتِ والأرْضِ فانْفُذُوا﴾ [الرحمن: ٣٣]؛ فَماجَ العِبادُ بَعْضُهم في بَعْضٍ مِن شِدَّةِ الزِّحامِ؛ وطُولِ القِيامِ؛ كُلَّما مالُوا عَلى جِهَةٍ مِن جِهاتِهِمْ زَجَرُوهم زَجْرًا رَدُّوهم بِهِ عَنِ النُّفُوذِ؛ مَعَ أنَّ انْتِظامَ المُدَبِّراتِ؛ النّاشِئَ عَنِ اصْطِفافِهِمْ في التَّدْبِيرِ في طاعَةِ المَلِكِ القَدِيرِ؛ دالٌّ عَلى الوَحْدانِيَّةِ؛ قالَ (تَعالى): ﴿والصّافّاتِ﴾؛ أيْ: الجَماعاتِ مِنَ المَلائِكَةِ؛ والمُصَلِّينَ؛ والمُجاهِدِينَ؛ المُكَمِّلِينَ أنْفُسَهم بِالِاصْطِفافِ في الطّاعَةِ؛ فَهو صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ؛ وعَدَلَ عَنْ أنْ يَقُولَ: ”الصّافِّينَ“؛ القاصِرَ عَلى الذُّكُورِ العُقَلاءِ؛ لِيَشْمَلَ (p-١٨٨)الجَماعاتِ مِنَ المَلائِكَةِ؛ والجِنِّ؛ والإنْسِ؛ والطَّيْرِ؛ والوَحْشِ؛ وغَيْرِها؛ إشارَةً إلى أنَّهُ لا يُؤَلِّفُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنها؛ لِيَتَّحِدَ قَصْدُهُ؛ إلّا واحِدٌ قَهّارٌ؛ وأنَّهُ ما اتَّحَدَ قَصْدُ شَيْءٍ مِنها إلّا اسْتَوى صِفَةً؛ ولا اعْتَدَلَ صِفَةً إلّا اتَّحَدَ زَجْرُهُ؛ وهو صِياحُهُ؛ ولا اتَّحَدَ زَجْرُهُ إلّا اتَّحَدَ ما يُذَكِّرُهُ بِصَوْتِهِ؛ ولا اتَّحَدَ مِنهُ ذَلِكَ إلّا نَجَحَ قَصْدُهُ واتَّضَحَ رُشْدُهُ؛ بِدَلِيلِ المُشاهَدَةِ؛ وأدَلُّها أنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - لَمّا اتَّحَدَ قَصْدُهم في إعْلاءِ الدِّينِ؛ وهم أضْعَفُ الأُمَمِ؛ وأقَلُّها عَدَدًا؛ لَمْ يَقُمْ لَهم جَمْعٌ مِنَ النّاسِ الَّذِينَ لا نِسْبَةَ لَهم إلَيْهِمْ في قُوَّةٍ؛ ولا كَثْرَةٍ؛ ولَمْ يَنْقُصْ صَفُّهُمْ؛ وجَرَحَ القُلُوبَ وأبارَها زَجْرُهُمْ؛ وشَرَحَ الصُّدُورَ وأنارَها ذِكْرُهُمْ؛ كَما أشارَ إلَيْهِ (تَعالى) آخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ﴾ [الصافات: ١٧٣]؛ وكَذا غَيْرُ الآدَمِيِّينَ؛ مِنَ الحَيَواناتِ؛ كَما يُرى مِنَ الفَأْرِ؛ والجَرادِ؛ إذا أرادَ اللَّهُ (تَعالى) اتِّحادَ (p-١٨٩)قَصْدِهِ في شَيْءٍ؛ فَإنَّهُ يَغْلِبُ فِيهِ مَن يُغالِبُهُ؛ ويَقْهَرُ مَن يُقاوِيهِ أوْ يُقالِبُهُ؛ فَبانَ أنَّ الخَيْرَ كُلَّهُ ما أُرِيدَ بِالقَسَمِ؛ واتَّحَدَ جِدًّا بِالمُقْسَمِ عَلَيْهِ؛ والتَأمَ والتَحَمَ بِهِ أيَّ التِحامٍ؛ وانْتَظَمَ مَعْناهُما كُلَّ الِانْتِظامِ. ولَمّا كانَ التَّأْكِيدُ بِالمَصْدَرِ أدَلَّ عَلى الوَحْدَةِ المُرادَةِ؛ قالَ: ﴿صَفًّا﴾؛ وهو تَرْتِيبُ الجَمْعِ عَلى خَطٍّ؛ ولَمّا كانَ تَوَحُّدُ القَصْدِ مُوجِبًا لِلْقُوَّةِ المُهَيِّئَةِ لِلزَّجْرِ؛ وكانَ تَكْمِيلُ الغَيْرِ مُسَبَّبًا عَنْ تَكْمِيلِ النَّفْسِ؛ ومُرَتَّبًا عَلَيْهِ؛ وأشْرَفَ مِنهُ؛ لَوْ تَجَرَّدَ عَنِ التَّكْمِيلِ؛ وكانَ التَّكْمِيلُ إنَّما يَتِمُّ أمْرُهُ؛ ويَعْظُمُ أثَرُهُ مَعَ الهَيْبَةِ: «”فَأخَذَنِي؛ فَغَطَّنِي؛ حَتّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدُ“؛»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب