الباحث القرآني

ولَمّا أتَمَّ - سُبْحانَهُ - الخَبَرَ عَنْ أوَّلِ أمْرِ المُمَثَّلِ بِهِمْ؛ وأوَّلِ أمْرِ المُؤْمِنِ بِهِمْ؛ وآخِرِهِ؛ وأذِنَ هَذا التَّحَسُّرُ بِأنَّ هَلاكَ المُكَذِّبِينَ أمْرٌ لا بُدَّ مِنهُ؛ دَلَّ عَلَيْهِ مُعَجِّبًا مِن عَدَمِ نَظَرِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ؛ ومُهَدِّدًا لِلسّامِعِينَ مِنهُمْ؛ ومُحَذِّرًا مِن آخِرِ أمْرِ المُمَثَّلِ بِهِمْ؛ عَلى وجْهٍ انْدَرَجَ فِيهِ جَمِيعُ الأُمَمِ الماضِيَةِ؛ والطَّوائِفِ الخالِيَةِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَرَوْا﴾؛ أيْ: يَعْلَمْ؛ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَدْعُوهُمْ؛ عِلْمًا هو كالرُّؤْيَةِ؛ بِما صَحَّ عِنْدَهم مِنَ الأخْبارِ؛ وما شاهَدُوهُ مِنَ الآثارِ؛ ﴿كَمْ أهْلَكْنا﴾؛ عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ؛ ودَلَّ قَوْلُهُ: ﴿قَبْلَهُمْ﴾ - بِكَوْنِهِ ظَرْفًا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الجارَّ - عَلى أنَّ المُرادَ جَمِيعُ الزَّمانِ الَّذِي تَقَدَّمَهُمْ؛ مِن آدَمَ إلى زَمانِهِمْ؛ وإدْخالُ الجارِّ عَلى المُهْلَكِينَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بَعْضُهُمْ؛ فَرَجَعَ حاصِلُ ذَلِكَ إلى أنَّ المُرادَ: انْظُرُوا جَمِيعَ ما مَضى مِنَ الزَّمانِ؛ هَلْ عُذِّبَ فِيهِ قَوْمٌ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ إلّا بِسَبَبِ عِصْيانِ الرُّسُلِ؛ فَقالَ: ﴿مِنَ القُرُونِ﴾؛ أيْ: الكَثِيرَةِ؛ الشَّدِيدَةِ؛ الضَّخْمَةِ؛ و”القَرْنُ“؛ قالَ البَغَوِيُّ: أهْلُ كُلِّ عَصْرٍ؛ سُمُّوا بِذَلِكَ لِاقْتِرانِهِمْ في الوُجُودِ؛ ﴿أنَّهُمْ﴾؛ أيْ: لِأنَّ القُرُونَ؛ ولَمّا كانَ المُرادُ مِن ”رَسُولٍ“؛ لَيْسَ واحِدًا بِعَيْنِهِ؛ وكانَتْ صِيغَةُ (p-١١٩)”فَعَوْلٌ“؛ كَـ ”فَعِيلٌ“؛ يَسْتَوِي فِيها المُذَكَّرُ؛ والمُؤَنَّثُ؛ والواحِدُ؛ والجَمْعُ؛ أعادَ الضَّمِيرَ لِلْجَمِيعِ؛ فَقالَ: ﴿إلَيْهِمْ﴾؛ أيْ: إلى الرُّسُلِ خاصَّةً؛ مِن حَيْثُ كَوْنُهم رُسُلًا؛ ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾؛ أيْ: عَنْ مَذاهِبِهِمُ الخَبِيثَةِ؛ ويَخُصُّونَ الرُّسُلَ بِالِاتِّباعِ؛ فَلا يَتَّبِعُونَ غَيْرَهم أصْلًا في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ الدِّينِيَّةِ؛ أوِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فاطَّرَدَتْ سُنَّتُنا؛ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِنا تَبْدِيلًا؛ في أنَّهُ كُلَّما كَذَّبَ قَوْمٌ رَسُولَهم أهْلَكْناهُمْ؛ ونَجَّيْنا رَسُولَهُمْ؛ ومَن تَبِعَهُ؛ أفَلا يَخافُ هَؤُلاءِ أنْ نُجْرِيَهم عَلى تِلْكَ السُّنَّةِ القَدِيمَةِ القَوِيمَةِ؛ فَـ ”أنَّ“؛ تَعْلِيلِيَّةٌ؛ عَلى إرادَةِ حَذْفِ لامِ العِلَّةِ؛ كَما هو مَعْرُوفٌ في غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ وضَمِيرُ ”أنَّهُمْ“؛ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ؛ وضَمِيرُ ”إلَيْهِمْ“؛ لِلرُّسُلِ؛ لا يَشُكُّ في هَذا مَن لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ؛ وطَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ؛ والتَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى إمْهالِهِمْ؛ والتَّأنِّي بِهِمْ؛ والحِلْمِ عَنْهُمْ؛ مَعَ تَمادِيهِمْ في العِنادِ بِتَجْدِيدِ عَدَمِ الرُّجُوعِ؛ و”يَرْجِعُونَ“؛ هُنا نَحْوُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة: ٢١]؛ أيْ: عَنْ طُرُقِهِمُ الفاسِدَةِ؛ وهَذا مَعْنى الآيَةِ بِغَيْرِ شَكٍّ؛ ولَيْسَ بِشَيْءٍ قَوْلُ مَن قالَ: المَعْنى أنَّ المُهْلَكِينَ لا يَرْجِعُونَ إلى الدُّنْيا؛ لِيُفِيدَ الرَّدُّ عَلى مَن يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ؛ لِأنَّ العَرَبَ لَيْسَتْ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ؛ ولَوْ سَلِمَ لَمْ يَحْسُنْ؛ لِأنَّ السِّياقَ لَيْسَ لَهُ؛ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَنْهم غَيْرُ الِاسْتِهْزاءِ؛ فَأنْكَرَ عَلَيْهِمُ اسْتِهْزاءَهُمْ؛ (p-١٢٠)مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) أجْرى سُنَّتَهُ أنَّ مَنِ اسْتَهْزَأ بِالرُّسُلِ؛ وخالَفَ قَوْلَهُمْ؛ فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ؛ أهْلَكَهُ؛ اطَّرَدَ ذَلِكَ مِن سُنَّتِهِ؛ ولَمْ يَتَخَلَّفْ في أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ؛ كَما وقَعَ لِقَوْمِ نُوحٍ؛ وهُودٍ؛ ومَن بَعْدَهُمْ؛ لَمْ يَتَخَلَّفْ في واحِدَةٍ مِنهُمْ؛ وكُلُّهم تَعْرِفُ العَرَبُ أخْبارَهُمْ؛ ويَنْظُرُونَ آثارَهُمْ؛ وكَذا يَعْرِفُونَ قِصَّةَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ فِرْعَوْنَ؛ فالسِّياقُ لِلتَّهْدِيدِ؛ فَصارَ المَعْنى: ألَمْ يَرَ هَؤُلاءِ كَثْرَةَ مَن أهْلَكْنا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؛ لِمُخالَفَتِهِمْ لِلرُّسُلِ؟ أفَلا يَخْشَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ في مُخالَفَتِهِمْ لِرَسُولِهِمْ؟ وذَلِكَ مُوافِقٌ لِقِراءَةِ الكَسْرِ؛ الَّتِي نَقَلَها البُرْهانُ السَّفاقُسِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - وغَيْرِهِ؛ عَنِ الحَسَنِ؛ وقالُوا: إنَّها اسْتِئْنافِيَّةٌ؛ فَهي عَلى تَقْدِيرِ سُؤالِ مَن كَأنَّهُ قالَ: لِمَ أهْلَكَهُمْ؟ وهَذا كَما إذا شاعَ أنَّ الوادِيَ الفُلانِيَّ ما سَلَكَهُ أحَدٌ إلّا أُصِيبَ؛ يَكُونُ ذَلِكَ مانِعًا عَنْ سُلُوكِهِ؛ وإنْ أرادَ ذَلِكَ أحَدٌ صَحَّ أنْ يُقالَ لَهُ: ألَمْ تَرَ أنَّهُ ما سَلَكَهُ أحَدٌ إلّا هَلَكَ؟ فَيَكُونُ ذَلِكَ زاجِرًا لَهُ؛ ورادًّا عَنِ التَّمادِي فِيهِ؛ لِكَوْنِ العِلَّةِ في الهَلاكِ سُلُوكُهُ فَقَطْ؛ وذَلِكَ أكَفُّ لَهُ مِن أنْ يُقالَ لَهُ: ألَمْ تَرَ أنَّ النّاسَ يَمُوتُونَ؛ وكَثْرَةَ مَن ماتَ مِنهُمْ؛ ولَمْ يَرْجِعْ أحَدٌ مِنهُمْ؟ غَيْرَ مُعَلِّلٍ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِن سُلُوكِ الوادِي؛ ولا غَيْرِهِ؛ فَإنَّ هَذا أمْرٌ مَعْلُومٌ لَهُ؛ غَيْرُ مُجَدِّدٍ فائِدَةً؛ وزِيادَةُ عَدَمِ الرُّجُوعِ إلى الدُّنْيا لا دَخْلَ لَها في العِلِّيَّةِ أيْضًا؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ المُخاطَبِينَ؛ بَلْ (p-١٢١)هم قائِلُونَ بِأعْظَمَ مِنهُ؛ مِن أنَّهُ لا حَياةَ بَعْدَ المَوْتِ؛ لا إلى الدُّنْيا؛ ولا إلى غَيْرِها؛ وعَلى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَرُبَّما كانَ ذِكْرُ الرُّجُوعِ لِلْأمْواتِ أوْلى بِأنْ يَكُونَ تَهْدِيدًا؛ فَإنَّ كُلَّ إنْسانٍ مِنهم يَرْجِعُ حِينَئِذٍ إلى ما في يَدِ غَيْرِهِ؛ مِمّا كانَ ماتَ عَلَيْهِ؛ ويَصِيرُ المَتْبُوعُ بِذَلِكَ تابِعًا؛ أوْ يَقَعُ الحَرْبُ؛ وتَحْصُلُ الفِتَنُ؛ فَأفادَ ذَلِكَ أنَّهُ لا يَصْلُحُ التَّهْدِيدُ بِعَدَمِ الرُّجُوعِ؛ واللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب