الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ ما كانَ السَّبَبَ المانِعَ لَهم مِنَ الإبْصارِ؛ عُلِمَ أنَّ السَّبَبَ المانِعَ مِنَ السَّمْعِ مِثْلُهُ؛ لِأنَّ المُخْبِرَ عَزِيزٌ؛ فَهو إذا فَعَلَ شَيْئًا كانَ عَلى وجْهٍ لا يُمْكِنُ فِيهِ حِيلَةٌ؛ ولَمّا أخْبَرَ أنَّ الأكْثَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ اسْتَشْرَفَ (p-٩٩)السّامِعُ إلى أمارَةٍ يَعْرِفُ بِها الأقَلَّ النّاجِي؛ لِأنَّهُ المَقْصُودُ بِالذّاتِ؛ فَقالَ - جَوابًا لَهُ -: ﴿إنَّما تُنْذِرُ﴾؛ أيْ: إنْذارًا يَنْتَفِعُ بِهِ المُنْذَرُ؛ فَيَتَأثَّرُ عَنْهُ النَّجاةُ؛ فالمَعْنى: إنَّما يُؤْمِنُ بِإنْذارِكَ؛ ﴿مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾؛ أيْ: أجْهَدَ نَفْسَهُ في اتِّباعِ كُلِّ ما يُذَكِّرُ بِاللَّهِ مِنَ القُرْآنِ؛ وغَيْرِهِ؛ ويُذْكَرُ بِهِ صاحِبُهُ؛ ويُشَرَّفُ؛ ﴿وخَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾؛ أيْ: خافَ العامَّ الرَّحْمَةِ؛ خَوْفًا عَظِيمًا؛ ودَلَّ لَفْتُ الكَلامِ عَنْ مَظْهَرِ العَظَمَةِ إلى الوَصْفِ بِالرَّحْمانِيَّةِ عَلى أنَّ أهْلَ الخَشْيَةِ يَكْفِيهِمْ في الِاتِّعاظِ التَّذْكِيرُ بِالإحْسانِ؛ ﴿بِالغَيْبِ﴾؛ أيْ: بِسَبَبِ ما يُخْبَرُ بِهِ مِن مَقْدُوراتِهِ الغائِبَةِ؛ لا سِيَّما البَعْثَ؛ الَّذِي كانَ اخْتِصاصُها بِغايَةِ بَيانِهِ بِسَبَبِ كَوْنِها قَلْبًا مِن غَيْرِ طَلَبِ آيَةٍ كاشِفَةٍ لِلْحِجابِ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ الأمْرُ عَنْ شَهادَةٍ؛ لا غَيْبَ فِيهِ؛ بَلْ تَجْوِيزًا لِما يَجُوزُ مِنَ انْتِقامِهِ؛ ولَوْ بِقَطْعِ إحْسانِهِ؛ لِما ثَبَتَ لَهُ في سُورَةِ ”فاطِرٍ“؛ مِنَ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ؛ ويَخْشاهُ أيْضًا خَشْيَةً خالِصَةً؛ في حالِ غَيْبَتِهِ عَمَّنْ يُرائِيهِ مِنَ النّاسِ؛ فَهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ يَنْفَعُهُمُ الإنْذارُ؛ وهُمُ المُتَّقُونَ؛ الَّذِينَ ثَبَتَ في ”البَقَرَةِ“؛ أنَّ الكِتابَ هُدًى لَهُمْ؛ وغَيْرَهم لا سَبِيلَ إلى اسْتِقامَتِهِ؛ ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] فَإنَّهُ (p-١٠٠)لَيْسَ عَلَيْكَ إلّا الإنْذارُ؛ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ؛ فَمَن عَلِمَ مِنهُ هَذِهِ الخَشْيَةَ أقْبَلَ بِهِ؛ ومَن عَلِمَ مِنهُ القَساوَةَ رَدَّهُ عَلى عَقِبِهِ؛ بِما حالَ دُونَهُ مِنَ الغِشاوَةِ؛ واللَّهُ المُوَفِّقُ. ولَمّا دَلَّ السِّياقُ عَلى أنَّ هَذا نَفَعَ نَفْسَهُ؛ تَشَوَّفَ السّامِعُ إلى مَعْرِفَةِ جَزائِهِ؛ فَقالَ - مُفْرِدًا الضَّمِيرَ عَلى النَّسَقِ الماضِي؛ في مُراعاةِ لَفْظِ ”مَن“؛ دَلالَةً عَلى قِلَّةِ هَذا الصِّنْفِ مِنَ النّاسِ بِأجْمَعِهِمْ؛ في هَذِهِ السُّورَةِ الجامِعَةِ؛ بِكَوْنِها قَلْبًا؛ لِما تَفَرَّقَ في غَيْرِها -: ﴿فَبَشِّرْهُ﴾؛ أيْ: بِسَبَبِ خَشْيَتِهِ بِالغَيْبِ؛ ﴿بِمَغْفِرَةٍ﴾؛ أيْ: لِذُنُوبِهِ؛ وإنْ عَظُمَتْ؛ وإنْ تَكَرَّرَتْ مُواقَعَتُهُ لَها؛ وتَوْبَتُهُ مِنها؛ فَإنَّ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ الِاتِّصافَ بِالخَشْيَةِ؛ ولَمّا حَصَلَ العِلْمُ بِمَحْوِ الذُّنُوبِ؛ عَيْنِها؛ وأثَرِها؛ قالَ: ﴿وأجْرٍ كَرِيمٍ﴾؛ أيْ: دارٍّ؛ عَظِيمٍ؛ هَنِيءٍ؛ لَذِيذٍ؛ مُتَواصِلٍ؛ لا كَدَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب