الباحث القرآني

ولَمّا قَرَّرَ بِهَذا كُلِّهِ ما أثْبَتَهُ سابِقًا؛ مِن عِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ؛ وثَبَتَ أنَّهُ قادِرٌ عَلى النُّشُورِ؛ فَثَبَتَ أنَّ لَهُ العِزَّةَ في الآخِرَةِ؛ كَما شُوهِدَ ذَلِكَ في الدُّنْيا؛ وكانَتْ مُنافَسَةُ النّاسِ - لا سِيَّما الكَفَرَةُ - في العِزَّةِ؛ فَوْقَ مُنافَسَتِهِمْ في الحِكْمَةِ؛ ومَن نافَسَ في الحِكْمَةِ فَإنَّما يُنافِسُ فِيها لِاكْتِسابِ العِزَّةِ؛ وكانَ الكَفَرَةُ إنَّما عَبَدُوا الأوْثانَ لِيَعْتَزُّوا بِها؛ كَما قالَ: ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزًّا﴾ [مريم: ٨١]؛ قالَ - مُسْتَنْتِجًا مِن ذَلِكَ -: ﴿مَن كانَ﴾؛ أيْ: في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ؛ ﴿يُرِيدُ العِزَّةَ﴾؛ أيْ: أنْ يَكُونَ مُحْتاجًا إلَيْهِ غَيْرُهُ؛ وهو غَنِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ؛ غالِبًا؛ غَيْرَ مَغْلُوبٍ؛ ﴿فَلِلَّهِ﴾؛ أيْ: وحْدَهُ؛ ﴿العِزَّةُ جَمِيعًا﴾؛ أيْ: فَلْيَطْلُبْها مِنهُ؛ ولا يَطْلُبْها مِن غَيْرِهِ؛ فَإنَّهُ لا شَيْءَ لِغَيْرِهِ فِيها؛ ومَن طَلَبَ الشَّيْءَ مِن غَيْرِ صاحِبِهِ خابَ؛ قالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: وقَدْ رُوِيَ عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «”إنَّ رَبَّكم يَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ: (أنا العَزِيزُ؛ فَمَن أرادَ عِزَّةَ الدّارَيْنِ فَلْيُطِعِ العَزِيزَ)“». (p-١٩)ولَمّا رَغَّبَ في اقْتِناصِ العِزَّةِ؛ بَعْدَ أنْ أخْبَرَ أنَّهُ لا شَيْءَ فِيها لِغَيْرِهِ؛ دَلَّ عَلى اخْتِصاصِهِ بِها؛ بِشُمُولِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ؛ وبَيَّنَ أنَّها إنَّما تُنالُ بِالحِكْمَةِ؛ فَقالَ: ﴿إلَيْهِ﴾؛ أيْ: لا إلى غَيْرِهِ؛ ﴿يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾؛ أيْ: الجارِي عَلى قَوانِينِ الشَّرْعِ؛ عَنْ نِيَّةٍ حَسَنَةٍ؛ وعَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ؛ سَواءٌ كانَ سِرًّا أوْ عَلَنًا؛ لِأنَّهُ عَيْنُ الحِكْمَةِ؛ فَيُعِزُّ صاحِبَهُ؛ ويُثِيبُهُ. ولَمّا أعْلى رُتْبَةَ القَوْلِ الحَكِيمِ؛ بَيَّنَ أنَّ الفِعْلَ أعْلى مِنهُ؛ لِأنَّهُ المَقْصُودُ بِالذّاتِ؛ والقَوْلُ وسِيلَةٌ إلَيْهِ؛ فَقالَ - دالًّا عَلى عُلُوِّهِ بِتَغْيِيرِ السِّياقِ -: ﴿والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾؛ هو - سُبْحانَهُ - يَتَوَلّى رَفْعَهُ؛ ولِصاحِبِهِ عِنْدَهُ عِزٌّ مَنِيعٌ؛ ونَعِيمٌ مُقِيمٌ؛ وعَمَلُهُ يَفُوزُ؛ قالَ الرّازِيُّ؛ في اللَّوامِعِ: العِلْمُ إنَّما يَتِمُّ بِالعَمَلِ؛ كَما قِيلَ: ”العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعَمَلِ؛ فَإنْ أجابَ؛ وإلّا ارْتَحَلَ“؛ انْتَهى؛ وقَدْ قِيلَ: ؎لا تَرْضَ مِن رَجُلٍ حَلاوَةَ قَوْلِهِ ∗∗∗ حَتّى يُصَدِّقَ ما يَقُولُ فِعالُ ؎فَإذا وزَنْتَ مَقالَهُ بِفِعالِهِ ∗∗∗ ∗∗∗ فَتَوازَنا فَإخاءُ ذاكَ جَمالُ ولَمّا بَيَّنَ ما يُحَصِّلُ العِزَّةَ مِنَ الحِكْمَةِ؛ بَيَّنَ ما يُكْسِبُ الذِّلَّةَ؛ ويُوجِبُ النِّقْمَةَ؛ مِن رَدِيءِ الهِمَّةِ؛ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ يَمْكُرُونَ﴾؛ أيْ: يَعْمَلُونَ عَلى وجْهِ (p-٢٠)السَّتْرِ المَكْراتِ ﴿السَّيِّئاتِ﴾؛ أيْ: يَسْتُرُونَ قُصُودَهم بِها؛ لِيُوقِعُوها بَغْتَةً؛ ﴿لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾؛ كَما أرادُوا بِغَيْرِهِمْ ذَلِكَ؛ ولا يَصْعَدُ مَكْرُهم إلَيْهِ بِنَفْسِهِ؛ ولا يَرْفَعُهُ هُوَ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أهْلِيَّةُ ذَلِكَ؛ لِمُنافاتِهِ الحِكْمَةَ؛ ولَمّا كانَ ما ذَكَرَ مِن مَكْرِهِمْ مُوجِبًا لِتَعَرُّفِ حالِهِ؛ هَلْ أفادَهم شَيْئًا؟ أخْبَرَ أنَّهُ أهْلَكَهُ بِعِزَّتِهِ؛ ودَمَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ؛ فَقالَ: ﴿ومَكْرُ أُولَئِكَ﴾؛ أيْ: البُعَداءِ مِنَ الفَلاحِ؛ ﴿هُوَ﴾؛ أيْ: وحْدَهُ؛ دُونَ مَكْرِ مَن يُرِيدُ بِمَكْرِهِ الخَيْرَ؛ فَإنَّ اللَّهَ يُنْفِذُهُ ويُعْلِي أمْرَهُ؛ ويَجْعَلُ لَهُ العاقِبَةَ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠]؛ كَما أخْرَجَكم أيُّها الأوْلِياءُ مِن بُيُوتِكُمْ؛ لِأجْلِ العِيرِ؛ فَأخْرَجَ الأعْداءَ مِن بُيُوتِهِمْ؛ فَوَضَعَهم في قَلِيبِ ”بَدْرٍ“؛ ﴿يَبُورُ﴾؛ أيْ: يَكْسُدُ؛ ويَفْسَدُ؛ ويَهْلِكُ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى شُمُولِ عِلْمِهِ لِلْخَيْرِ؛ والشَّرِّ؛ مِنَ القَوْلِ؛ والفِعْلِ؛ الخَفِيِّ؛ والجَلِيِّ؛ وتَمامِ قُدْرَتِهِ؛ وذَلِكَ مَعْنى ”العِزَّةُ“؛ والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: حَذَفَ ما لِصاحِبِ العَمَلِ الصّالِحِ؛ ودَلَّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ ما لِعامِلِ السَّيِّئِ؛ وحَذَفَ وضْعَهُ المَكْرَ السَّيِّئَ؛ ودَلَّ عَلَيْهِ بِرَفْعِهِ لِلْعَمَلِ الصّالِحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب