الباحث القرآني

ولَمّا أبْطَلَ شُبَهَهم كُلَّها، ولَيَّنَ مِن عَرِيكَتِهِمْ بِالتَّنْبِيهِ عَلى التَّحْذِيرِ، فَصارُوا جَدِيرِينَ بِقَبُولِ الوَعْظِ، [وكانَ مِمّا رَمَوْهُ بِهِ - وحاشاهُ - الجُنُونُ وتَعَمُّدُ الكَذِبِ]، أمَرَهُ بِالإقْبالِ عَلَيْهِمْ بِهِ مُخَفِّفًا لَهُ لِئَلّا يَنْفِرُوا مِن طُولِهِ فَقالَ: ﴿قُلْ﴾ وأكَّدَهُ زِيادَةً في اسْتِجْلابِهِمْ إلى الإقْبالِ عَلَيْهِ فَقالَ: ﴿إنَّما أعِظُكم بِواحِدَةٍ﴾ أيْ فاسْمَعُوا ولا تَنْفِرُوا خَوْفًا مِن أنْ أُمِلَّكُمْ؛ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ بَيانًا لَها: ﴿أنْ تَقُومُوا﴾ أيْ تُوَجِّهُوا نُفُوسَكم إلى تَعَرُّفِ الحَقِّ، وعَبَّرَ بِالقِيامِ إشارَةً إلى الِاجْتِهادِ ﴿لِلَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لا أعْظَمَ مِنهُ عَلى وجْهِ الإخْلاصِ واسْتِحْضارِ ما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ بِما لَهُ لَدَيْكم مِنَ الإحْسانِ [لا لِإرادَةِ المُغالَبَةِ] حالَ كَوْنِكم ﴿مَثْنى﴾ أيِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، [وقَدَّمَهُ إشارَةً إلى أنَّ أغْلَبَ النّاسِ ناقِصُ العَقْلِ] ﴿وفُرادى﴾ أيْ واحِدًا واحِدًا، مَن وثَقَ بِنَفْسِهِ في رَصانَةِ عَقْلِهِ وأصالَةِ رَأْيِهِ قامَ وحْدَهُ لِيَكُونَ أصْفى لِسِرِّهِ، وأعْوَنَ عَلى خُلُوصٍ فِكْرِهِ، ومَن خافَ عَلَيْها ضَمَّ إلَيْهِ آخَرَ لِيُذَكِّرَهُ إنْ نَسِيَ. ويُقَوِّمُهُ إنْ زاغَ. ولَمّا كانَ هَذا القِسْمُ أكْثَرَ وُجُودًا في النّاسِ قَدَّمَهُ ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُما مِنَ الأقْسامِ، إشارَةً إلى أنَّهم إذا كانُوا عَلى هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ كانَ أجْدَرَ لَهم (p-٥٣٠)بِأنْ يَعْرِفُوا الحَقَّ مِن غَيْرِ شائِبَةِ حَظٍّ مِمّا يَكُونُ في الجَمْعِ الكَثِيرِ مِنَ الجِدالِ واللَّفْظِ المانِعِ مِن تَهْذِيبِ الرَّأْيِ وتَثْقِيفِ الفِكْرِ وتَنْقِيَةِ المَعانِي. ولَمّا كانَ ما طَلَبَ مِنهم هَذا لِأجْلِهِ عَظِيمًا جَدِيرًا بِأنْ يُهْتَمَّ لَهُ هَذا الِاهْتِمامَ، أشارَ إلَيْهِ بِأداةِ التَّراخِي فَقالَ: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ أيْ تَجْتَهِدُوا بَعْدَ التَّأنِّي وطُولِ التَّرَوِّي في الفِكْرِ فِيما وسَمْتُمْ بِهِ صاحِبَكم مِن أمْرِ الجُنُونِ. ولَمّا كانَ بُعْدُهُ ﷺ مِن هَذا أمْرًا لا يُتَمارى فِيهِ، اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ [مُعَيِّنًا بِالتَّعْبِيرِ بِالصّاحِبِ] مُؤَكِّدًا تَكْذِيبًا لَهم وتَنْبِيهًا عَلى ظُهُورِ مَضْمُونِ هَذا النَّفْيِ: ﴿ما بِصاحِبِكُمْ﴾ أيِ الَّذِي دَعاكم إلى اللَّهِ وقَدْ بَلَوْتُمُوهُ صَغِيرًا ويافِعًا وشابًّا وكَهْلًا، وأعْرَقَ في النَّفْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن جِنَّةٍ﴾ وخَصَّها لِأنَّها مِمّا يُمْكِنُ طُرُوءُهُ، ولَمْ يُعَرِّجْ عَلى الكَذِبِ لِأنَّهُ مِمّا لا يُمْكِنُ فِيمَن عاشَ بَيْنَ أُناسٍ عُمْرًا طَوِيلًا ودَهْرًا دَهِيرًا يَصْحَبُهم لَيْلًا ونَهارًا صَباحًا ومَساءً سِرًّا وعَلَنًا في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وهو أعْلاهم هِمَّةً وأوْفاهم مُرُوءَةً، وأزْكاهم خَلائِقَ وأظْهَرُهم شَمائِلَ، وأبْعَدُهم عَنِ الأدْناسِ ساحَةً في مُطْلَقِ الكَذِبِ، فَكَيْفَ بِما يُخالِفُ أهْواءَهم فَكَيْفَ بِما يُنْسَبُ إلى اللَّهِ فَكَيْفَ وكَلامُهُ الَّذِي يُنْسَبُ فِيهِ إلى الكَذِبِ مُعْجِزٌ بِما فِيهِ (p-٥٣١)مِنَ الحِكَمِ والأحْكامِ، والبَلاغَةِ والمَعانِي الَّتِي أعْيَتِ الأفْهامَ. ولَمّا ثَبَتَ بِهَذا إعْلامًا وإفْهامًا بَراءَتَهُ مِمّا قَذَفُوهُ بِهِ كُلِّهِ، حَصَرَ أمْرَهُ في النَّصِيحَةِ مِنَ الهَلاكِ، فَقالَ مُنَبِّهًا عَلى أنَّ هَذا الَّذِي أتاهم بِهِ لا يَدَّعِيهِ إلّا أحَدُ رَجُلَيْنِ: إمّا مَجْنُونٌ أوْ صادِقٌ هو أكْمَلُ الرِّجالِ، وقَدِ انْتَفى الأوَّلُ فَثَبَتَ الثّانِي: ﴿إنْ﴾ أيْ ما ﴿هُوَ﴾ [أيِ المُحَدَّثُ عَنْهُ بِعَيْنِهِ] ﴿إلا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ أيْ خاصًّا إنْذارَهُ وقَصْدَهُ الخَلاصَ بِكُمْ، [وهَوَّلَ أمْرَ العَذابِ بِتَصْوِيرِهِ صُورَةَ مَن لَهُ آلَةُ بَطْشٍ مُحِيطَةٍ بِمَن تَقْصِدُهُ فَقالَ]: ﴿بَيْنَ يَدَيْ﴾ [أيْ] قَبْلَ حُلُولِ ﴿عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ قاهِرٍ لا خَلاصَ مِنهُ، إنْ لَمْ تَرْجِعُوا إلَيْهِ حَلَّ بِكم سَرِيعًا، رَوى [البُخارِيُّ] عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ الصَّفا ذاتَ يَوْمٍ فَقالَ: يا صَباحاهُ! فاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقالُوا: ما لَكَ، فَقالَ: أرَأيْتُمْ لَوْ أخْبَرْتُكم أنَّ العَدُوَّ يُصَبِّحُكم أوْ يُمَسِّيكم أما كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قالُوا: بَلى، فَقالَ: إنِّي نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ، فَقالَ أبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، ألِهَذا جَمَعْتَنا؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ [المسد: ١]» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب