الباحث القرآني

ولَمّا أبْطَلَ شُبْهَتَهم بِشُعْبَتَيْها بِالنِّسْبَةِ إلى الأشْخاصِ المُخْتَلِفَةِ، قَرَّبَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ واحِدٍ في شَخْصٍ واحِدٍ فَقالَ: ﴿قُلْ﴾ يا أشْرَفَ الخَلْقِ لِهَؤُلاءِ الجَهَلَةِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّ الرِّزْقَ بِحَسَبِ حُسْنِ السَّعْيِ وقُبْحِهِ أوْ حُسْنِ حالِ الشَّخْصِ عِنْدَ اللَّهِ وقُبْحِها: ﴿إنَّ رَبِّي﴾ [أيْ] المُحْسِنَ إلَيَّ بِهَذا البَيانِ المُعْجِزِ ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ أيْ مَتى شاءَ ﴿لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ أيْ عَلى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ المُسْتَمِرِّ مِن أيِّ طائِفَةٍ كانَ ﴿ويَقْدِرُ لَهُ﴾ أيْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ نَفْسِهِ في حالَتَيْنِ مُتَعاقِبَتَيْنِ، وهو بِصِفَةٍ واحِدَةٍ عَلى عَمَلٍ واحِدٍ، فَلَوْ أنَّ الإكْرامَ والإنْعامَ يُوجِبُ الدَّوامَ لَما تَغَيَّرَتْ حالُهُ مِنَ السَّعَةِ إلى الضِّيقِ، ولَوْ أنَّ في يَدِهِ نَفْعَ نَفْسِهِ لَما اخْتَلَفَ حالُهُ. ولَمّا بَيَّنَ هَذا البَسْطُ أنَّ فِعْلَهُ بِالِاخْتِيارِ بَعْدَ أنْ بَيَّنَ بِالأوَّلِ كَذِبَهم في أنَّهُ سَبَبٌ لِلسَّلامَةِ مِنَ النّارِ. دَلَّ عَلى أنَّهُ الفاعِلُ لا غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ أنْتُمْ وأخْصامُكم وغَيْرُهم ﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ (p-٥١٨)أيْ لا غَيْرُهُ بِدَلِيلِ أنَّ المُنْفِقَ قَدْ يَجْتَهِدُ كُلَّ الِاجْتِهادِ في الإخْلافِ فَلا يُنْفِقُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ المُخْتَصُّ بِالإخْلافِ، ولِأنَّ هَذا هو المَعْنى لا أنَّهُ ضِمْنَ الإخْلافَ لِكُلِّ مَن يُنْفِقُ عَلى أيِّ وجْهٍ كانَ، قالَ مُجاهِدٌ كَما نَقَلَهُ الرّازِي في اللَّوامِعِ: «إذا كانَ في يَدِ أحَدِكم شَيْءٌ فَلْيَقْتَصِدْ ولا يَتَأوَّلِ الآيَةَ، فَإنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ، وما عالَ مَنِ اقْتَصَدَ» كَما رَواهُ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا، والمَعْنى أنَّهُ قَدْ دَلَّ الإخْلافُ عَلى جَمِيعِ الأشْكالِ والأضْدادِ عَلى أنَّ الأمْرَ فِيهِ عَلى غَيْرِ ما ظَنَنْتُمْ مِنَ الإسْعافِ بِهِ في وقْتٍ مُوجِبٍ لِلْإكْرامِ عَلى الدَّوامِ، وأنَّ ذَلِكَ إنَّما هو لِضَمانِهِ الرِّزْقَ لِكُلِّ أحَدٍ بِحَسَبِ ما قَسَّمَهُ لَهُ عَلى ما سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وقُدْرَتُهُ وحِكْمَتُهُ، وتارَةً يَكُونُ إخْلافُهُ حِسًّا وبِالفِعْلِ، وتارَةً يَكُونُ مَعْنًى وبِالقُوَّةِ، بِالتَّرْضِيَةِ بِتِلْكَ الحالَةِ الَّتِي أدَّتْ إلى العَدَمِ، قالَ القُشَيْرِيُّ: وهو أتَمُّ مِنَ السُّرُورِ بِالمَوْجُودِ، ومِن ذَلِكَ الأُنْسُ بِاللَّهِ في الخَلْوَةِ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا مَعَ التَّجْرِيدِ. انْتَهى. والمُنْفِقُ بِالِاقْتِصادِ داخِلٌ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَحْتَ قَوْلِهِ ﷺ فِيما رَواهُ الشَّيْخانِ: البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ اللَّهُ تَعالى: «أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» وما رَوى الشَّيْخانِ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ أيْضًا «ما مِن يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ إلّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ يَقُولُ أحَدَهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويَقُولُ (p-٥١٩)الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» فَهو خَيْرُ المُوسِعِينَ ﴿وهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ تَعُدُّونَهم هَذا العِدادَ مِمَّنْ يُقِيمُهم هو سُبْحانَهُ لَكم فَتُضِيفُونَ الرِّزْقَ إلَيْهِمْ، فَإنَّهم وسائِطُ لا يَقْدِرُونَ إلّا عَلى ما قَدَرَهُمْ، وأمّا هو سُبْحانَهُ فَهو يُوجِدُ المَعْدُومَ، ويَرْزُقُ مَن يُطِيعُهُ ومَن يَعْصِيهِ، ولا يَضِيقُ تَرْزِيقُهُ بِأحَدٍ، ولا يَشْغَلُهُ فِيهِ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ، بَلْ يَبْعَثُ في كُلِّ يَوْمٍ لِكُلِّ أحَدٍ رِزْقَهُ في آنٍ واحِدٍ كَما يَنْشُرُ عَلَيْهِمْ نُورَهُ بِالشَّمْسِ في آنٍ واحِدٍ مِن غَيْرِ تَوْقِيفٍ لِذَلِكَ عَلى شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ غَيْرَ ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ في الأزَلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب