الباحث القرآني
ولَمّا كانَ رُبَّما اسْتُبْعِدَ مَوْتُ مَن هو عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ مِن ضَخامَةِ المُلْكِ بِنُفُوذِ الأمْرِ وسَعَةِ الحالِ وكَثْرَةِ الجُنُودِ، أشارَ إلى سُهُولَتِهِ بِقُرْبِ زَمَنِهِ وسُرْعَةِ إيقاعِهِ عَلى وجْهٍ دالٍّ عَلى بُطْلانِ تَعْظِيمِهِمْ لِلْجِنِّ بِالإخْبارِ بِالمُغَيَّباتِ بَعْدَ تَنْبِيهِهِمْ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ بِاسْتِخْدامِهِ لَهم بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا﴾ بِالفاءِ، ولِذَلِكَ عادَ إلى مَظْهَرِ الجَلالِ فَقالَ: ﴿قَضَيْنا﴾ وحَقَّقَ صِفَةَ القُدْرَةِ بِأداةِ الِاسْتِعْلاءِ فَقالَ: ﴿عَلَيْهِ﴾ أيْ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿المَوْتَ ما دَلَّهُمْ﴾ أيْ جُنُودَهُ وكُلُّ مَن في مِلْكِهِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ وغَيْرِهِمْ مِن كُلِّ قَرِيبٍ وبَعِيدٍ ﴿عَلى مَوْتِهِ﴾ لِأنّا جَعَلْنا لَهُ مِن سَعَةِ العِلْمِ ووُفُورِ الهَيْبَةِ ونُفُوذِ الأمْرِ ما تَمَكَّنَ بِهِ مِن إخْفاءِ مَوْتِهِ عَنْهم ﴿إلا دابَّةُ الأرْضِ﴾ فَخَّمَها بِهَذِهِ الإضافَةِ الَّتِي مِن مَعْناها أنَّهُ لا دابَّةَ لِلْأرْضِ غَيْرُها لِما أفادَتْهُ مِنَ العِلْمِ ولِأنَّها لِكَوْنِها تَأْكُلُ مِن كُلِّ شَيْءٍ (p-٤٧٠)مِن أجْزاءِ الأرْضِ مِنَ الخَشَبِ والحَجَرِ والتُّرابِ والثِّيابِ وغَيْرِ ذَلِكَ أحَقُّ الدَّوابِّ بِهَذا الِاسْمِ، ويَزِيدُ ذَلِكَ حُسْنًا أنَّ مَصْدَرَ فِعْلِها أرْضَ بِالفَتْحِ والإسْكانِ فَيَصِيرُ مِن قَبِيلِ التَّوْرِيَةِ لِيَشْتَدَّ التَّشَوُّفُ إلى تَفْسِيرِها ثُمَّ بَيَّنَ أنَّها الأرَضَةُ بِقَوْلِهِ مُسْتَأْنِفًا في جَوابِ مَن كَأنَّهُ قالَ: أيُّ دابَّةٍ هي وبِما دَلَّتْ: ﴿تَأْكُلُ مِنسَأتَهُ﴾ أيْ عَصاهُ الَّتِي ماتَ وهو مُتَّكِئٌ عَلَيْها قائِمًا في بَيْتٍ مِن زُجاجٍ، ولَيْسَ لَهُ بابٌ، صَنَعَتْهُ لَهُ الجِنُّ لِما أعْلَمَهُ اللَّهُ بِأنَّ أجَلَهُ قَدْ حَضَرَ، وكانَ قَدْ بَقِيَ في المَسْجِدِ بَقِيَّةٌ لِيُخْفِيَ مَوْتَهُ عَلى الجِنِّ الَّذِينَ كانُوا يَعْمَلُونَ في البَيْتِ المُقَدَّسِ حَتّى يَتِمَّ؛ قالَ في القامُوسِ في بابِ الهَمْزِ: نَسَأهُ: زَجَرَهُ وساقَهُ وأخَّرَهُ ودَفَعَهُ عَنِ الحَوْضِ، والمِنسَأةُ كَمِكْنَسَةٍ مَرْتَبَةٌ، ويُتْرَكُ الهَمْزُ فِيهِما: العَصا - لِأنَّ الدّابَّةَ تُنْسَأُ بِها أيْ تُساقُ، والبَدَلُ فِيها لازِمٌ، حَكاهُ سِيبَوَيْهِ. انْتَهى. فالمَعْنى أنَّ الجِنَّ كانُوا يُزْجَرُونَ ويُساقُونَ بِها، وقَرَأها المَدَنِيّانِ وأبُو عَمْرٍو بِالإبْدالِ، وابْنُ عامِرٍ مِن رِوايَةِ ابْنِ ذَكْوانَ والدّاجُونِيُّ عَنْ هِشامٍ (p-٤٧١)بِإسْكانِ الهَمْزَةِ، والباقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ ﴿فَلَمّا خَرَّ﴾ أيْ سَقَطَ عَلى الأرْضِ بَعْدَ أنْ قَصَمَتِ الأرَضَةُ عَصاهُ ﴿تَبَيَّنَتِ الجِنُّ﴾ أيْ عَلِمَتْ عِلْمًا بَيِّنًا لا يَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلى تَدْبِيجٍ وتَدْلِيسٍ، وانْفَضَحَ أمْرُهم وظَهَرَ ظُهُورًا تامًّا ﴿أنْ﴾ أيْ أنَّهم ﴿لَوْ كانُوا﴾ أيِ الجِنُّ ﴿يَعْلَمُونَ الغَيْبَ﴾ أيْ عِلْمَهُ ﴿ما لَبِثُوا﴾ أيْ أقامُوا حَوْلًا مُجْرَمًا ﴿فِي العَذابِ المُهِينِ﴾ مِن ذَلِكَ العَمَلِ الَّذِي كانُوا مُسَخَّرِينَ فِيهِ، والمُرادُ إبْطالُ ما كانُوا يَدَّعُونَهُ مِن عِلْمِ الغَيْبِ عَلى وجْهِ الصِّفَةِ، لِأنَّ المَعْنى أنَّ دَعْواهم ذَلِكَ إمّا كَذِبٌ أوْ جَهْلٌ، فَأحْسَنُ الأحْوالِ لَهم أنْ يَكُونَ جَهْلًا مِنهُمْ، وقَدْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الآنَ جَهْلُهم بَيانًا لا يَقْدِرُونَ عَلى إنْكارِهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”أنْ“ تَعْلِيلِيَّةً، ويَكُونَ التَّقْدِيرُ: تَبَيَّنَ حالُ الجِنِّ فِيما يُظَنُّ بِهِمْ مِن أنَّهم يَعْلَمُونَ الغَيْبَ، لِأنَّهم إلى آخِرِهِ، وسَبَبُ عِلْمِهِمْ مُدَّةَ كَوْنِهِ مَيِّتًا قَبْلَ ذَلِكَ أنَّهم وضَعُوا الأرَضَةَ عَلى مَوْضِعٍ مِنَ العَصا فَأكَلَتْ مِنها يَوْمًا ولَيْلَةً، وحَسَبُوا عَلى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوا المُدَّةَ سَنَةً، وفي هَذا تَوْبِيخٌلِلْعَرَبِ أنَّهم يُصَدِّقُونَ مَن ثَبَتَ بِهَذا الأمْرِ أنَّهم لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ في الخُرافاتِ اللّاتِي تَأْتِيهِمْ بِها الكُهّانَ وغَيْرُهم مِمّا يَفْتِنُهم والحالُ أنَّهم يُشاهِدُونَ مِنهُ كَذِبًا كَبِيرًا، فَكانُوا بِذَلِكَ مُساوِينَ لِمَن يُخْبِرُ مِنَ الآدَمِيِّينَ عَنْ بَعْضِ المُغَيَّباتِ بِظَنٍّ يَظُنُّهُ أوْ مَنامٍ يَراهُ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَما قالَ، هَذا مَعَ (p-٤٧٢)إعْراضِهِمْ عَمَّنْ يُخْبِرُهم بِالآخِرَةِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ونَصِيحَةً لَهُمْ، وما أخْبَرَهم بِشَيْءٍ قَطُّ إلّا ظَهَرَ صِدْقُهُ قَبْلَ ادِّعائِهِ لِلنُّبُوَّةِ وبَعْدَهُ، وأظْهَرَ لَهم مِنَ المُعْجِزاتِ ما بَهَرَ العُقُولَ. وقَدْ تَقَرَّرَ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ ثَبَتَ لِمَن قَبْلَ نَبِيِّنا ﷺ مِنَ الأنْبِياءِ مِنَ الخَوارِقِ ثَبَتَ لَهُ مِثْلُهُ أوْ أعْظَمُ مِنهُ إمّا لَهُ نَفْسِهِ أوْ لِأحَدٍ مِن أُمَّتِهِ، وهَذا الَّذِي ذُكِرَ لِسُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَن حَفْظِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ سَنَةً لا يَمِيلُ قَدْ ثَبَتَ مِثْلُهُ لِشَخْصٍ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ مِن غَيْرِ شَيْءٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، قالَ الأُسْتاذُ أبُو القاسِمِ القُشَيْرِيُّ في رِسالَتِهِ في بابِ البادِيَةِ قائِمًا [مَيَّتًا] لا يُمْسِكُهُ شَيْءٌ. انْتَهى.
وقَدْ ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ الشَّخْصِ في بِلادِ شِرَوانَ مِن بِلادِ فارِسَ بِالقُرْبِ مِن شَماخى، اسْمُ ذَلِكَ الوَلِيِّ مُحَمَّدٌ، ولَقَبُهُ دَمْدَمْكى، ماتَ مِن نَحْوِ أرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ في المِائَةِ الخامِسَةِ مِنَ الهِجْرَةِ، وهو قاعِدٌ في مَكانٍ مِن مَقامِهِ الَّذِي كانَ البِسْطامِيَّةَ، أخْبَرَنِي مِن شاهِدَهُ مِمَّنْ كَذَلِكَ لا أتَّهِمُهُ مِن طَلَبَةِ العِلْمِ العَجَمِ، وهو أمْرٌ مَشْهُورٌ مُتَواتِرٌ في بِلادِهِمْ غَنِيٌّ عَنْ مُشاهَدَةِ شَخْصٍ (p-٤٧٣)مُعَيَّنٍ، قالَ: زُرْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ ولَهُ هَيْبَةٌ تَمْنَعُ المُعْتَقِدَ مِنَ الدُّنُوِّ مِنهُ دُنُوًّا يَرى بِهِ وجْهَهُ كَما أشارَ تَعالى إلى مِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَوَلَّيْتَ مِنهم فِرارًا ولَمُلِئْتَ مِنهم رُعْبًا﴾ [الكهف: ١٨] قالَ: وكانَ مَعَنا في بَعْضِ المَرّاتِ شَخْصٌ مِن طَلَبَةِ العِلْمِ مِن أهْلِ كَيْلانِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ يَقُولُ: إنَّما هَذا نَوْعُ شَعْبَدَةٍ يُخَيَّلُ بِهِ عَلى عُقُولِ الرِّعاعِ، قالَ: فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ بِجُرْأةٍ ولَمَسَ صَدْرَهُ ونَظَرَ في وجْهِهِ، فَأُصِيبَ في الحالِ فَلَمْ يَرْجِعْ إلّا مَحْمُولًا، فَأقامَ في المَدْرَسَةِ الَّتِي كانَ يَشْتَغِلُ بِها في مَدِينَةِ شَمّاخِي مُدَّةً، وأخْبَرَنا [أنَّ] الشَّيْخَ دَمْدَمْكِي قالَ لَهُ لَمّا لَمَسَهُ: لَوْلا أنَّكَ مِن أهْلِ العِلْمِ هَلَكْتَ، وأنَّهُ شَيْخٌ خَفِيفُ اللِّحْيَةِ، قالَ: وقَدْ تُبْتُ إلى اللَّهِ تَعالى وصِرْتُ مِنَ المُعْتَقِدِينَ لِما هُوَعَلَيْهِ أنَّهُ حَقٌّ، ولا أُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِن كَراماتِ الأوْلِياءِ، قالَ الحاكِي: وقَدْ دُفِنَ ثَلاثَ مَرّاتٍ إحْداها بِأمْرِ تَمْرِلِنْكَ فَيُصْبِحُ جالِسًا عَلى ما هو عَلَيْهِ الآنَ - واللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ.
{"ayah":"فَلَمَّا قَضَیۡنَا عَلَیۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦۤ إِلَّا دَاۤبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ ٱلۡغَیۡبَ مَا لَبِثُوا۟ فِی ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِینِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











