الباحث القرآني

ولَمّا أكَّدَ سُبْحانَهُ وُجُوبَ الصَّدْعِ بِكُلِّ أمْرِهِ وإنْ عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ وزادَتْ حُرْقَتُهُ مِن غَيْرِ رُكُونٍ إلى مُؤالِفٍ مُوافِقٍ، ولا اهْتِمامٍ بِمُخالِفٍ (p-٢٩٦)مُشاقِقٍ، اعْتِمادًا عَلى تَدْبِيرِهِ، وعَظِيمِ أمْرِهِ في تَقْدِيرِهِ، ذَكَّرَهم بِدَلِيلٍ شُهُودِيٍّ هو أعْظَمُ وقائِعِهِمْ في حُرُوبِهِمْ، وأشَدُّ ما دَهَمَتْهم مِن كُرُوبِهِمْ، فَقالَ مُعْلِمًا أنَّ المَقْصُودَ بِالذّاتِ بِما مَضى [مِن] الأوامِرِ الأُمَّةُ - وإنَّما وجَّهَ الأمْرَ إلى الإمامِ لِيَكُونَ أدْعى لَهم إلى الِامْتِثالِ فَإنَّ الأمْرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ تَكْوِينِيٌّ بِمَنزِلَةِ ما يَقُولُ اللَّهُ تَعالى لَهُ ”كُنْ“ فَحَقِيقَةُ الإرادَةِ لا الأمْرُ، والأمْرُ لِلَّذِينِ آمَنُوا تَكْفِيلِيٌّ. وقَدْ يُرادُ [مِنهُمْ] ما يُؤْمَرُونَ بِهِ وقَدْ لا يُرادُ، ولِلنّاسِ احْتِجاجِيٌّ أيْ تُقامُ بِهِ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ، ومِنَ المُحَقِّقِ أنَّ بَعْضَهم يُرادُ مِنهُ خِلافُ المَأْمُورِ بِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ أقَرُّوا بِالإيمانِ، عَبَّرَ بِهِ لِيَعُمَّ المُنافِقِينَ ﴿اذْكُرُوا﴾ ورَغَّبَهم في الشُّكْرِ بِذِكْرِ الإحْسانِ والتَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ فَقالَ: ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ عَبَّرَ بِها لِأنَّها المَقْصُودَةُ بِالذّاتِ والمُرادُ إنْعامُ المَلِكِ الأعْلى الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيْ لِتَشْكُرُوهُ عَلَيْها بِالنُّفُوذِ لِأمْرِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلى خِلافِ أحَدٍ كائِنًا مَن كانَ، فَإنَّ اللَّهَ كافِيكم كُلَّ ما تَخافُونَ ثُمَّ ذَكَرَ لَهم وقْتَ تِلْكَ النِّعْمَةِ زِيادَةً في تَصْوِيرِها لِيَذْكُرَ لَهم ما كانَ فِيهِ مِنها فَقالَ: ﴿إذْ﴾ أيْ حِينَ ﴿جاءَتْكُمْ﴾ [أيْ] في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ (p-٢٩٧)حِينَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْكُمُ الأحْزابُ وكانَ النَّبِيُّ ﷺ ضَرَبَهُ حِينَ سَمِعَ بِهِمْ بِمَشُورَةِ سَلْمانَ الفارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى جانِبَيْ سَلْعٍ مِن شَمالِيِّهِ، وخَطَّهُ وقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةِ رِجالٍ أرْبَعِينَ ذِراعًا، وكانُوا ثَلاثَةَ آلافٍ، فَكانَ الخَنْدَقُ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفَ ذِراعٍ ﴿جُنُودٌ﴾ وهُمُ الأحْزابُ مِن قُرَيْشٍ ومَنِ انْضَمَّ إلَيْهِ مِنَ الأحابِيشِ في أرْبَعَةِ آلافٍ يَقُودُهم أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ، ومَنِ انْضَمَّ مِن قَبائِلِ العَرَبِ مِن بَنِي سَلِيمٍ يَقُودُهم أبُو الأعْوَرِ، ومِن بَنِي عامِرٍ يَقُودُهم عامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، ومِن غَطَفانَ يَقُودُهم عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، ومِن بَنِي أسَدٍ يَقُودُهم طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، ومِن أسْباطِ بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ اليَهُودِ ومِن بَنِي النَّضِيرِ ورُؤُسائِهِمْ حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ وابْنا أبِي الحُقَيْقِ، وهُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا الأحْزابَ بِسَبَبِ إجْلاءِ النَّبِيِّ ﷺ لَبَنِي النَّضِيرِ مِنَ المَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، وأفْسَدُوا أيْضًا بَنِي قُرَيْظَةَ، وكانُوا بِالمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وسَيِّدُهم كَعْبُ بْنُ أسَدٍ، فَكانَ الجَمِيعُ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، وكانُوا واثِقِينَ في زَعْمِهِمْ بِأنَّهم لا يَرْجِعُونَ وقَدْ بَقِيَ لِلْإسْلامِ باقِيَةٌ، ولا يَكُونُ لِأحَدٍ مِن أهْلِهِ [مِنهُمْ] واقِيَةٌ. ولَمّا كانَ مَجِيءُ الجُنُودِ مُرْهِبًا، سَبَّبَ عَنْهُ عُودَهُ إلى مَظْهَرِ العَظَمَةِ فَقالَ: ﴿فَأرْسَلْنا﴾ أيْ تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ أنّا لَمّا رَأيْنا عَجْزَكم عَنْ مُقابَلَتِهِمْ ومُقاوَمَتِهِمْ في مُقاتَلَتِهِمْ ألْهَمْناكم عَمَلَ الخَنْدَقِ لِيَمْنَعَهم مِن سُهُولَةِ الوُصُولِ (p-٢٩٨)إلَيْكُمْ، ثُمَّ لَمّا طالَ مُقامُهم أرْسَلَنا بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أيْ خاصَّةً ﴿رِيحًا﴾ وهي رِيحُ الصَّبا، فَأطْفَأتْ نِيرانَهم. وأكْفَأتْ قُدُورَهم وجِفانَهُمْ، وسَفَّتِ التُّرابَ في وُجُوهِهِمْ، ورَمَتْهم بِالحِجارَةِ وهَدَّتْ خِيامَهُمْ، وأوْهَنَتْ بِبَرْدِها عِظامَهُمْ، وأجالَتْ خَيْلَهم ﴿وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وقَلْبِيَّةً، مِنها مِنَ البَشَرِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الغَطَفانِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَداهُ اللَّهُ لِلْإسْلامِ، «فَأتى النَّبِيَّ ﷺ وقالَ: إنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أحَدٌ بِإسْلامِي، فَمُرْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ بِأمْرِكَ! فَقالَ: ”إنَّما أنْتَ فِينا رَجُلٌ واحِدٌ والحَرْبُ خُدْعَةٌ، فَخَذِّلْ عَنّا مَهْما اسْتَطَعْتَ“ فَأخْلَفَ بَيْنَ اليَهُودِ وبَيْنَ العَرَبِ بِأنْ قالَ لِلْيَهُودِ وكانُوا أصْحابَهُ: إنَّ هَؤُلاءِ - يَعْنِي العَرَبَ - إنْ رَأوْا فُرْصَةً انْتَهَزُوها وإلّا انْشَمَرُوا إلى بِلادِهِمْ راجِعِينَ. ولَيْسَ حالُكم كَحالِهِمْ، البَلَدُ بَلَدُكم وبِهِ أمْوالُكم ونِساؤُكم وأبْناؤُكُمْ، فَلا تُقاتِلُوا مَعَهم حَتّى تَأْخُذُوا مِنهم رَهْنًا مِن أشْرافِهِمْ لِيَكُونُوا عِنْدَكم حَتّى تُناجِزُوا الرَّجُلَ، فَإنَّهُ لَيْسَ لَكم بَعْدُ طاقَةٌ إذا انْفَرَدَ بِكُمْ، فَقالُوا: أشَرْتَ بِالرَّأْيِ، فَقالَ: فاكْتُمُوا عَنِّي، وقالَ لِقُرَيْشٍ: قَدْ عَلِمْتُمْ صُحْبَتِي لَكم وفِراقِي لِمُحَمَّدٍ، وقَدْ سَمِعْتُ أمْرًا ما أظُنُّ أنَّكم تَتَّهِمُونَنِي فِيهِ، فَقالُوا: ما أنْتَ عِنْدَنا بِمُتَّهَمٍ، قالَ: فاكْتُمُوا عَنِّي، قالُوا: نَفْعَلُ، قالَ: إنَّ اليَهُودَ (p-٢٩٩)قَدْ نَدِمُوا عَلى نَقْضِ ما بَيْنَهم وبَيْنَ مُحَمَّدٍ وأرْسَلُوا إلَيْهِ: إنّا قَدْ نَدِمْنا فَهَلْ يَنْفَعُنا [عِنْدَكَ] أنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ القَوْمِ جَماعَةً مِن أشْرافِهِمْ تَضْرِبُ أعْناقَهُمْ، ونَكُونُ مَعَكَ عَلى بَقِيَّتِهِمْ، حَتّى تَفْرُغَ [مِنهُمْ] لِتَكُفَّ عَنّا. وتُعِيدَ لَنا الأمانَ، قالَ: نَعَمْ، فَإنْ أرْسَلُوا إلَيْكم فَلا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ رَجُلًا واحِدًا، ثُمَّ أتى غَطَفانَ فَقالَ: إنَّكم أصْلِي وعَشِيرَتِي وأحَبُّ النّاسِ إلَيَّ، قالُوا: صَدَقْتَ، ثُمَّ قالَ لَهم مِثْلَ ما قالَ لِقُرَيْشٍ واسْتَكْتَمَهُمْ، فَأرْسَلَتْ إلَيْهِمْ قُرَيْظَةُ يَطْلُبُونَ مِنهم رَهْنًا فَقالُوا: صَدَقَ نُعَيْمٌ، وأبَوْا أنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أحَدًا، فَقالَتْ قُرَيْظَةُ: صَدَقَ نُعَيْمٌ، فَتَخاذَلُوا واخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، فانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ، وبَرُدَتْ حِدَّتُهُمْ،» ومِنها مِنَ المَلائِكَةِ جِبْرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ومَن أرادَ اللَّهُ مِنهم - عَلى جَمِيعِهِمْ أفْضَلُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والتَّحِيَّةُ والإكْرامُ، فَكَبَّرُوا في نَواحِي عَسْكَرِهِمْ، وزَلْزَلُوا [بِهِمْ،] وبَثُّوا الرُّعْبَ في قُلُوبِهِمْ، فَماجَتْ خُيُولُهُمْ، واضْمَحَلَّ قالُهم وقِيلُهُمْ، فَكانَ في ذَلِكَ رَحِيلُهُمْ، بَعْدَ نَحْوِ أرْبَعِينَ يَوْمًا أوْ بِضْعٍ وعِشْرِينَ - عَلى ما قِيلَ. ولَمّا أجْمَلَ سُبْحانَهُ القِصَّةَ عَلى طُولِها في بَعْضِ هَذِهِ الآيَةِ، فَصَّلَها فَقالَ [ذاكِرًا الِاسْمَ الأعْظَمَ إشارَةً إلى أنَّ ما وقَعَ فِيها كانَ مُعْتَنًى بِهِ (p-٣٠٠)اعْتِناءً مِن بَذْلِ جَمِيعِ الجُهْدِ وإنْ كانَ الكُلُّ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ يَسِيرًا:] ﴿وكانَ اللَّهُ﴾ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ والجَلالِ والجَمالِ ”بِما يَعْمَلُونَ“ أيِ الأحْزابِ مِنَ التَّحَزُّبِ والتَّجَمُّعِ والتَّألُّبِ والمَكْرِ والقَصْدِ السَّيِّئِ - عَلى قِراءَةِ البَصْرِيِّ، وأنْتُمْ أيُّها المُسْلِمُونَ مَن حَفَرَ الخَنْدَقَ وغَيْرَهُ مِنَ الصِّدْقِ في الإيمانِ [وغَيْرِهِ] عَلى قِراءَةِ الباقِينَ ﴿بَصِيرًا﴾ بالِغُ الإبْصارِ والعِلْمِ، فَدَبَّرَ في هَذِهِ الحَرْبِ ما كانَ المُسْلِمُونَ بِهِ الأعْلَيْنَ ولَمْ يَنْفَعْ أهْلَ الشِّرْكِ قَوَّتُهُمْ، ولا أغْنَتْ عَنْهم كَثْرَتُهُمْ، ولا ضَرَّ المُؤْمِنِينَ قِلَّتُهُمْ، وجَعَلْنا ذَلِكَ سَبَبًا لِإغْنائِهِمْ بِأمْوالِ بَنِي قُرَيْظَةَ ونِسائِهِمْ وأبْنائِهِمْ وشِفاءً لِأدَوائِهِمْ بِإراقَةِ دِمائِهِمْ - كَما سَيَأْتِي؛
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب