الباحث القرآني

ولَمّا نَهى سُبْحانَهُ عَنْ أذى المُؤْمِناتِ، وكانَتِ الحَرائِرُ بَعِيداتٍ عَنْ طَمَعِ المُفْسِدِينَ لِما لَهُنَّ في أنْفُسِهِنَّ مِنَ الصِّيانَةِ ولِلرِّجالِ بِهِنَّ مِنَ العِنايَةِ، وكانَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ الرِّيبَةِ يَتَّبِعُونَ الإماءَ إذا خَرَجْنَ يَتَعَرَّضُونَ لَهُنَّ لِلْفَسادِ، وكانَ الحَرائِرُ يَخْرُجْنَ لِحاجَتِهِنَّ لَيْلًا، فَكانَ رُبَّما تَبِعَ المَرْأةَ مِنهُنَّ (p-٤١١)أحَدٌ مِن أهْلِ الرَّيْبِ يَظُنُّها أمَةً أوْ يَعْرِفْ أنَّها حُرَّةٌ ويَعْتَلُّ بِأنَّهُ ظَنَّها أمَةً فَيَتَعَرَّضُ لَها، ورُبَّما رَجَعَ فَقالَ لِأصْحابِهِ: فَعَلْتُ بِها، وهو كاذِبٌ، وفي القَوْمِ مَن يَعْرِفُ أنَّها فُلانَةٌ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنَ الأذى ما يَقْصُرُ عَنْهُ الوَصْفُ، ولَمْ يَكُنْ إذْ ذاكَ كَما نُقِلَ عَنْ مُقاتِلٍ فَرْقٌ بَيْنَ الحُرَّةِ والأمَةِ كُنَّ يَخْرُجْنَ في دِرْعٍ وخِمارٍ وكانَ اتِّسامُ الحَرائِرِ بِأمارَةٍ يُعْرَفْنَ [بِها]- لِيُهَبْنَ ويَحْتَشِمْنَ - يُخَفِّفُ هَذا الشَّرَّ، قالَ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ﴾ فَذَكَرَهُ بِالوَصْفِ الَّذِي هو مَنبَعُ المَعْرِفَةِ والحِكْمَةِ، لِأنَّ السِّياقَ لِحِكْمَةٍ يَذُبُّ بِها عَنِ الحَرِيمِ لِئَلّا يَشْتَغِلَ فِكْرُهُ ﷺ بِما يَحْصُلُ لَهُنَّ مِنَ الأذى عَنْ [تَلَقِّي شَيْءٍ مِن] الوارِداتِ الرَّبّانِيَّةِ ﴿قُلْ لأزْواجِكَ﴾ بَدَأ بِهِنَّ لِما لَهُنَّ بِهِ مِنَ الوُصْلَةِ بِالنِّكاحِ ﴿وبَناتِكَ﴾ ثَنّى بِهِنَّ لِما لَهُنَّ مِنَ الوُصْلَةِ ولَهُنَّ في أنْفُسِهِنَّ مِنَ الشَّرَفِ، وأخَّرَهُنَّ عَنِ الأزْواجِ لِأنَّ أزْواجَهُ يَكْفُونَهُ أمْرَهُنَّ ﴿ونِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ﴾ أيْ: يَقْرِبْنَ ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ أيْ: عَلى وُجُوهِهِنَّ وجَمِيعِ أبْدانِهِنَّ فَلا يَدَعْنَ شَيْئًا مِنها مَكْشُوفًا ﴿مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ ولا يَتَشَبَّهْنَ بِالإماءِ في لِباسِهِنَّ إذا خَرَجْنَ لِحاجَتِهِنَّ بِكَشْفِ الشُّعُورِ ونَحْوِها ظَنًّا أنَّ ذَلِكَ أخْفى لَهُنَّ وأسْتَرُ، والجِلْبابُ القَمِيصُ، وثَوْبٌ واسِعٌ دُونَ المَلْحَفَةِ تَلْبَسُهُ المَرْأةُ، (p-٤١٢)والمَلْحَفَةُ ما سَتَرَ اللِّباسَ، أوِ الخِمارُ وهو كُلُّ ما غَطّى الرَّأْسَ، وقالَ البَغَوِيُّ: الجِلْبابُ: المُلاءَةُ الَّتِي تَشْتَمِلُ بِها المَرْأةُ فَوْقَ الدِّرْعِ والخِمارِ، وقالَ حَمْزَةُ الكِرْمانِيُّ: قالَ الخَلِيلُ: كُلُّ ما تَسْتَتِرُ بِهِ مِن دِثارٍ وشِعارٍ وكِساءٍ فَهو جِلْبابٌ، والكُلُّ يَصِحُّ إرادَتُهُ هُنا، فَإنْ كانَ المُرادُ القَمِيصَ فَإدْناؤُهُ إسْباغُهُ حَتّى يُغَطِّيَ يَدَيْها ورِجْلَيْها، وإنْ كانَ ما يُغَطِّي الرَّأْسَ فَإدْناؤُهُ سِتْرُ وجْهِها وعُنُقِها، وإنْ كانَ المُرادُ ما يُغَطِّي الثِّيابَ فَإدْناؤُهُ تَطْوِيلُهُ وتَوْسِيعُهُ بِحَيْثُ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِها وثِيابِها، وإنْ كانَ المُرادُ ما دُونَ المَلْحَفَةِ فالمُرادُ سَتْرُ الوَجْهِ واليَدَيْنِ. ولَمّا أمَرَ بِذَلِكَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ﴾ أيِ: السَّتْرُ ﴿أدْنى﴾ أيْ: أقْرَبُ مِن تَرْكِهِ في ﴿أنْ يُعْرَفْنَ﴾ أنَّهُنَّ حَرائِرُ بِما يُمَيِّزُهُنَّ عَنِ الإماءِ ﴿فَلا﴾ أيْ: فَيَتَسَبَّبُ عَنْ مَعْرِفَتِهِنَّ أنْ لا ﴿يُؤْذَيْنَ﴾ مِمَّنْ يَتَعَرَّضُ لِلْإماءِ. فَلا يَشْتَغِلُ قَلْبُكَ عَنْ تَلَقِّي ما يَرِدُ عَلَيْكَ مِنَ الأنْباءِ الإلَهِيَّةِ. ولَمّا رَقّاهم سُبْحانَهُ بِهَذا الأمْرِ في حَضَراتِ الرِّضْوانِ، خافُوا عاقِبَةَ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الغَلَطِ بِالتَّشَبُّهِ بِالإماءِ، فَأخْبَرَهم سُبْحانَهُ أنَّهُ في مَحَلِّ الجُودِ والإحْسانِ، فَقالَ: ﴿وكانَ اللَّهُ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ المُطْلَقُ، أزَلًا وأبَدًا ﴿غَفُورًا﴾ أيْ: مَحّاءً لِلذُّنُوبِ عَيْنًا وأثَرًا ﴿رَحِيمًا﴾ مُكْرِمًا لِمَن يُقْبِلُ عَلَيْهِ ويَمْتَثِلُ أوامِرَهُ ويَجْتَنِبُ مَناهِيَهُ، قالَ البَغَوِيُّ: قالَ أنْسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَرَّتْ (p-٤١٣)بِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جارِيَةً مُتَقَنِّعَةً فَعَلاها بِالدِّرَّةِ وقالَ: يا لَكاعِ! أتَتَشَبَّهِينَ بِالحَرائِرِ؟ ألْقِي القِناعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب