الباحث القرآني

ولَمّا حَثَّ سُبْحانَهُ عَلى المَكارِمِ والأخْلاقِ الزّاكِيَةِ، وخَتَمَ بِالتَّذْكِيرِ بِالآياتِ والحِكْمَةِ، أتْبَعَهُ ما لِمَن تَلَبَّسَ مِن أهْلِ البَيْتِ بِما يَدْعُو إلَيْهِ ذَلِكَ مِن صِفاتِ الكَمالِ، ولَكِنَّهُ ذَكَرَهُ عَلى وجْهٍ يَعُمُّ غَيْرَهم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى مُشاكَلَةً لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ وشُمُولِ الرِّسالَةِ، فَقالَ جَوابًا لِقَوْلِ النِّساءِ: يا رَسُولَ اللَّهِ! ذَكَرَ اللَّهُ الرِّجالَ ولَمْ يَذْكِرِ النِّساءَ بِخَيْرٍ فَما فِينا خَيْرٌ نُذْكَرُ بِهِ، إنّا نَخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنّا طاعَةٌ، بادِئًا الوَصْفَ الأوَّلَ الأعَمَّ الأشْهَرَ مِن أوْصافِ أهْلِ هَذا الدِّينِ مُؤَكِّدًا لِأجْلِ كَثْرَةِ المُنافِقِينَ المُكَذِّبِينَ بِمَضْمُونِ هَذا الخَبَرِ وغَيْرِهِمْ مِنَ المُصارِحِينَ: ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ﴾ ولَمّا كانَ اخْتِلافُ النَّوْعِ مُوجِبًا لِلْعَطْفِ، قالَ مُعْلِمًا بِالتَّشْرِيكِ في الحُكْمِ: ﴿والمُسْلِماتِ﴾ ولَمّا كانَ الإسْلامُ مَعَ كَوْنِهِ أكْمَلَ الأوْصافِ وأعْلاها يُمْكِنُ [أنْ يَكُونَ] بِالظّاهِرِ فَقَطْ، أتْبَعَهُ المُحَقِّقُ لَهُ وهو إسْلامُ الباطِنِ بِالتَّصْدِيقِ التّامِّ بِغايَةِ الإذْعانِ، فَقالَ عاطِفًا لَهُ ولِما بَعْدَهُ مِنَ الأوْصافِ الَّتِي يُمْكِنُ اجْتِماعُها بِالواوِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَمْكِينِ الجامِعِينَ لِهَذِهِ الأوْصافِ مِن كُلِّ وصْفٍ مِنها: ﴿والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ ولَمّا كانَ [المُؤْمِنُ] المُسْلِمُ قَدْ لا يَكُونُ في أعْمالِهِ مُخْلِصًا قالَ: ﴿والقانِتِينَ﴾ أيِ المُخْلِصِينَ في إيمانِهِمْ (p-٣٥٢)وإسْلامِهِمْ ﴿والقانِتاتِ﴾ ولَمّا كانَ القُنُوتُ كَما يُطْلَقُ عَلى الإخْلاصِ المُقْتَضِي لِلْمُداوَلَةِ قَدْ يُطْلَقُ عَلى مُطْلَقِ الطّاعَةِ قالَ: ﴿والصّادِقِينَ﴾ في ذَلِكَ كُلِّهِ ﴿والصّادِقاتِ﴾ أيْ في إخْلاصِهِمْ في الطّاعَةِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي الدَّوامَ. ولَمّا كانَ الصِّدْقُ - وهو إخْلاصُ القَوْلِ والعَمَلِ عَنْ شَوْبٍ يَلْحَقُهُ أوْ شَيْءٌ يُدَنِّسُهُ - قَدْ لا يَكُونُ دائِمًا، قالَ مُشِيرًا إلى أنَّ ما لا يَكُونُ دائِمًا لا يَكُونُ صِدْقًا في الواقِعِ: ﴿والصّابِرِينَ والصّابِراتِ﴾ ولَمّا كانَ الصَّبْرُ قَدْ يَكُونُ سَجِيَّةً، دَلَّ عَلى صَرْفِهِ إلى اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿والخاشِعِينَ والخاشِعاتِ﴾ ولَمّا كانَ الخُشُوعُ - وهو الخُضُوعُ والإخْباتُ والسُّكُونُ - لا يَصِحُّ مَعَ تَوْفِيرِ المالِ فَإنَّهُ سَيَكُونُ إلَيْهِ، قالَ مُعْلِمًا أنَّهُ إذْ ذاكَ لا يَكُونُ عَلى حَقِيقَتِهِ: ﴿والمُتَصَدِّقِينَ﴾ أيِ المُنْفِقِينَ أمْوالَهم في رِضى اللَّهِ بِغايَةِ الجُهْدِ مِن نُفُوسِهِمْ [بِما أشارَ إلَيْهِ إظْهارُ التّاءِ] فَرْضًا وتَطَوُّعًا سِرًّا وعَلانِيَةً بِما أرْشَدَ إلَيْهِ الإظْهارَ [أيْضًا] تَصْدِيقًا لِخُشُوعِهِمْ ﴿والمُتَصَدِّقاتِ﴾ ولَمّا كانَ بَذْلُ المالِ قَدْ لا يَكُونُ مَعَ الإيثارِ، أتْبَعَهُ ما يُعِينُ عَلَيْهِ فَقالَ: ﴿والصّائِمِينَ﴾ أيْ تَطَوُّعًا لِلْإيثارِ بِالقُوتِ وغَيْرِ ذَلِكَ ﴿والصّائِماتِ﴾ ولَمّا كانَ الصَّوْمُ يَكْسِرُ شَهْوَةَ الفَرْجِ وقَدْ يُثِيرُها، قالَ: ﴿والحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ﴾ أيْ عَما لا يَحِلُّ لَهم بِالصَّوْمِ وما أثارَهُ الصَّوْمُ ﴿والحافِظاتِ﴾ ولَمّا كانَ حِفْظُ الفُرُوجِ وسائِرِ الأعْمالِ لا تَكادُ تُوجَدُ (p-٣٥٣)إلّا بِالذِّكْرِ. وهو الَّذِي فِيهِ المُراقَبَةُ المُوصِلَةُ إلى المُحاضَرَةِ المُحَقِّقَةِ لِلْمُشاهِدَةِ المَحْيِيَةِ بِالفَناءِ قالَ: ﴿والذّاكِرِينَ اللَّهَ﴾ أيْ مَعَ [اسْتِحْضارِ] ما لَهُ مِنَ الكَمالِ بِصِفاتِ الجَلالِ والجَمالِ ﴿كَثِيرًا﴾ بِالقَلْبِ واللِّسانِ في كُلِّ حالَةٍ ﴿والذّاكِراتِ﴾ ومِن عَلاماتِ الإكْثارِ مِنَ الذِّكْرِ اللَّهَجُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِيقاظِ مِنَ النَّوْمِ. ولَمّا كانَ المُطِيعُ وإنْ جاوَزَ الحَدَّ في الِاجْتِهادِ مُقْتَصِرًا عَنْ بُلُوغٍ ما يَحِقُّ لَهُ، أشارَ إلى ذَلِكَ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ مُكَرَّرًا الِاسْمَ الأعْظَمَ إشارَةً إلى ذَلِكَ وإلى صِغَرِ الذُّنُوبِ إذا نُسِبَتْ إلى عَفْوِهِ: ﴿أعَدَّ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُقَدِّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَعَ أنَّهُ لا يَتَعاظَمُهُ شَيْءٌ ﴿لَهم مَغْفِرَةً﴾ أيْ لِهَفَواتِهِمْ وما أتَوْهُ مِن سَيِّئاتِهِمْ بِحَيْثُ يَمْحُو عَيْنَهُ وأثَرَهُ، فَلا عِتابَ ولا عِقابَ، ولا ذُكِرَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الأسْبابِ. ولَمّا ذَكَرَ الفَضْلَ بِالتَّجاوُزِ، أتْبَعَهُ التَّفَضُّلَ بِالكَرَمِ والرَّحْمَةِ فَقالَ: ﴿وأجْرًا عَظِيمًا﴾ وإعْدادُ الأجْرِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الأوْصافِ [اجْتِماعَها لِأنَّ مُظْهِرَ الإسْلامِ نِفاقًا كافِرٌ، وتارِكَ شَيْءٍ مِنَ الأوْصافِ] مُتَّصِفٌ بِضِدِّهِ وحِينَئِذٍ يَكُونُ مُخِلًّا بِالباقِي وأنَّ المُرادَ بِالعَطْفِ التَّمَكُّنُ والرُّسُوخُ في كُلِّ وصْفٍ مِنها زِيادَةً عَلى التَّمَكُّنِ الَّذِي أفادَهُ التَّعْبِيرُ بِالوَصْفِ دُونَ الفِعْلِ، وحِينَئِذٍ تَعْدَمُ الكَبائِرَ فَيَتَأتّى تَكْفِيرُ الصَّغائِرِ، فَتَأْتِي المَغْفِرَةُ والأجْرُ، وأمّا آيَةُ التَّحْرِيمِ فَلَمْ تَعْطِفْ لِئَلّا يَظُنَّ أنَّهُنَّ (p-٣٥٤)أنْواعٌ كُلُّ نَوْعٍ يَتَفَرَّدُ بِوَصْفٍ، وإفادَةُ الرُّسُوخِ هُنا في الأوْصافِ مِن سِياقِ الِامْتِنانِ والمَدْحِ بِكَوْنِهِنَّ خَيْرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب