الباحث القرآني

ولَمّا أتى سُبْحانَهُ بِهَذِهِ العِبارَةِ الحَكِيمَةِ الصّالِحَةِ مَعَ البَيانِ لِلتَّبْعِيضِ تَرْهِيبًا في تَرْغِيبٍ، أحْسَنَ كُلُّهُنَّ وحَقَّقْنَ بِما تَخَلَّقْنَ بِهِ أنَّ مِن لِلْبَيانِ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَرَضَ عَلَيْهِنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ذَلِكَ، وبَدَأ بِعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها رَأْسِ المُحْسِناتِ إذْ ذاكَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وعَنْ أبِيها وقالَ لَها: «إنِّي قائِلٌ لَكِ أمْرًا فَلا عَلَيْكِ أنْ لا تَعْجَلِي حَتّى تَسْتَأْمِرِي أبَوَيْكِ”، فَلَمّا تَلاها عَلَيْها قالَتْ مُنْكِرَةً لِتَوَقُّفِها في الخَبَرِ: أفِي هَذا أسْتَأْمِرُ أبَوَيَّ، فَإنِّي أخْتارُ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ، ثُمَّ عَرَضَ ذَلِكَ عَلى جَمِيعِ أزْواجِهِ فاقْتَدَيْنَ كُلُّهُنَّ بِعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ فَكانَتْ لَهُنَّ إمامًا فَنالَتْ إلى أجْرِها مِثْلَ أُجُورِهِنَّ» - رَوى ذَلِكَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وسَبَبُ ذَلِكَ أنَّهُ ﷺ وجَدَ عَلى نِسائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ فَآلى مِنهُنَّ شَهْرًا، فَلَمّا انْقَضى الشَّهْرُ نَزَلَ (p-٣٣٩)إلَيْهِنَّ مِن غُرْفَةٍ كانَ اعْتَزِلْ فِيها وقَدْ أنْزَلَ [اللَّهُ] عَلَيْهِ الآياتِ. فَخَيَّرَهُنَّ فاخْتَرْنَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، وسَبَبُ ذَلِكَ أنَّ مِنهُنَّ مَن سَألَ التَّوَسُّعَ في النَّفَقَةِ، وقَدْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ لا يُحِبُّ التَّوَسُّعَ في الدُّنْيا، رَوى الشَّيْخانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: «ما شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ، مِن خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ حَتّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ،» ورَوى الحَدِيثَ البَيْهَقِيُّ ولَفْظُهُ: قالَتْ: «ما شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلاثَةَ أيّامٍ مُتَوالِيَةٍ ولَوْ شِئْنا لَشَبِعْنا، ولَكِنَّهُ كانَ يُؤْثِرُ عَلى نَفْسِهِ،» ورَوى الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ عَنْها أيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «“مَن سَألَ عَنِّي أوْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَيَّ فَلْيَنْظُرْ إلى أشْعَثَ شاحِبٍ لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلى لَبِنَةٍ ولا قَصَبَةً عَلى قَصَبَةٍ، رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إلَيْهِ، اليَوْمَ المِضْمارُ وغَدًا السِّباقُ، والغايَةُ الجَنَّةُ أوِ النّارُ» . ولَمّا كانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ أمْضى حِكْمَتَهُ في هَذِهِ الدّارِ في [أنَّهُ] لا يُقْبَلُ قَوْلٌ إلّا بِبَيانٍ، قالَ سُبْحانَهُ مُتَهَدِّدًا عَلى ما قَدْ أعاذَهُنَّ اللَّهُ مِنهُ، فالمُرادُ مِنهُ بَيانُ أنَّهُ رَفَعَ مَقادِيرَهُنَّ، ولِذَلِكَ ذَكَرَ الأفْعالَ المُسْنَدَةَ إلَيْهِنَّ اعْتِبارًا (p-٣٤٠)بِلَفْظِ ”مَن“ والتَّنْبِيهِ عَلى غَلَطِ مَن جَعَلَ صَحْبَةَ الأشْرافِ دافِعَةً لِلْعِقابِ عَلى الإسْرافِ، ومُعْلِمَةً بِأنَّها إنَّما تَكُونُ سَبَبًا لِلْإضْعافِ: ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ﴾ [أيْ] المُخْتاراتِ لَهُ لِما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ مِمّا يُظْهِرُ شَرَفَهُ ﴿مَن يَأْتِ﴾ قِراءَةُ يَعْقُوبَ عَلى ما نَقَلَهُ البَغَوِيُّ بِالمُثَنّاةِ الفَوْقانِيَّةِ عَلى مَعْنى مَن دُونَ لَفْظِها وهي قِراءَةٌ شاذَّةٌ نَقَلَها الأهْوازِيُّ في كِتابِ الشَّواذِّ عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ: وقَرَأ الجَماعَةُ بِالتَّحْتانِيَّةِ عَلى اللَّفْظِ وكَذا ”يَقْنُتُ“ ﴿مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ﴾ أيْ مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ كالنُّشُوزِ وسُوءِ الخُلُقِ بِاخْتِيارِ الحَياةِ الدُّنْيا وزِينَتِها عَلى اللَّهِ ورَسُولِهِ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ أيْ واضِحَةٍ ظاهِرَةٍ في نَفْسِها تَكادُ تُنادِي بِذَلِكَ مِن سُوءٍ خُلُقٍ ونُشُوزٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ ﴿يُضاعَفْ لَها العَذابُ﴾ أيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، ولَمّا هَوَّلَ الأمْرَ بِالمُفاعَلَةِ في قِراءَةِ نافِعٍ المُفْهِمَةِ لِأكْثَرِ مِنِ اثْنَيْنِ كَما مَضى في البَقَرَةِ، سَهَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ضِعْفَيْنِ﴾ أيْ بِالنِّسْبَةِ إلى ما لِغَيْرِها لِأنَّ مِقْدارَها لا يَعْشُرُهُ مِقْدارُ غَيْرِها كَما جَعَلَ حَدَّ الحُرِّ ضِعْفَيْ ما لِلْعَبْدِ، وكَما جَعَلَ أجْرَهُنَّ مَرَّتَيْنِ. واشْتَدَّ العِتابُ فِيما بَيْنَ الأحْبابِ، وعَلى قَدْرِ عُلُوِّ المَقامِ يَكُونُ المَلامُ. (p-٣٤١)[و] بِقَدْرِ النِّعْمَةِ تَكُونُ النِّقْمَةُ، وكُلٌّ مِن بِناءِ يُضاعِفُ لِلْمَجْهُولِ مِن بابِ المُفاعَلَةِ أوِ التَّفْعِيلِ لِأبِي جَعْفَرٍ والبَصْرِيِّينَ أوْ لِلْفاعِلِ بِالنُّونِ عِنْدَ ابْنِ كَثِيرٍ وابْنِ عامِرٍ يَدُلُّ عَلى عَظَمَتِهِ سُبْحانَهُ، والبِناءُ لِلْمَجْهُولِ يَدُلُّ عَلى العِنايَةِ بِالتَّهْوِيلِ بِالعَذابِ بِجَعْلِهِ عُمْدَةَ الكَلامِ وصاحِبَ الجُمْلَةِ بِإسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ إشارَةً إلى أنَّ الأُمُورَ الكِبارَ صَغِيرَةٌ عِنْدَهُ سُبْحانَهُ لِأنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيْءٌ ولا يَنْفَعُهُ، ولا يُوجِبُ شَيْءٌ مِنَ الأشْياءِ لَهُ حُدُوثُ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿وكانَ ذَلِكَ﴾ أيْ مَعَ كَوْنِهِ عَظِيمًا عِنْدَكم ﴿عَلى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ فَهَذا ناظِرٌ إلى مَقامِ الجَلالِ والكِبْرِياءِ والعَظَمَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب